إنه دم الدعــوة

ليست هناك تعليقات


إنه دم الدعـــــــــوة


الشيخ : محمد أحمد الراشد
يعتبر تاريخ الصدر الأول من السلف الصالح من مصادر فقه الدعوة الرئيسة، فإنهم بأفعالهم وطريقتهم في الحياة كانوا أفصح من خلف ينطلق بقلمه لتدوين فقه الدعوة من تأمل نظري مجرد. وقد حددوا بسيرتهم ما يجب للداعية من صفات، وما يسوغ للدعوة أن تسلمه من أساليب ووسائل.

فبعضهم لم يتكلم بغير حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا جملا يسيرة، ولكنه أرى الناس تطبيقا رائعًا للحديث وأفعالا شدتهم إلى الاقتداء.
وإنما يرجي لدعوة الإسلام النجاح اليوم إذا أدركت هذه الحقيقة القديمة، لا بشيء آخر، فتحرص على أن تنزل ساحة العلمانية كل جوال فعال صامت، يري الأرضيين من نفسه قوة، قبل أن يسمعهم من لسانه تفاصحًا.
ومحمد بن سيرين، التابعي البصري: قدوة من قدوات الصمت الناطق أولئك، وله مذهب في التجرد سماه صاحبه أبو قلابة الجرمي: امتلاك النفس، فقال يفاخر بابن سيرين جمعا من الدعاة:

إصرفوه حيث شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعًا، وأملككم لنفسه

فالداعية يملك نفسه، ومن ثم فهو الذي يخطط لها طريقها ومستقبلها، ولا يدعها تملكه، فإن من لم يملك نفسه: يفقد حريته، وتكون هي المستعبدة له، وإنما هذه دعوة الأحرار والأبرار، يتصدرها كل حر سريع الخطو، ومن رضى أن يكون مملوكا ويرسف في الأغلال والقيود فإنما يكون في آخر القافلة، أو تدعه وتمضى.

ومنذئذ أضيف إلى فقه الدعوة شرط جديد من شروط الدعاة يلزم المتصدي أن يملك نفسه كما ملكها ابن سيرين، وأن يحررها من القيود كما حررها ابن سيرين.

وقد قال ابن السماك من قبل:
إن الرجاء حبل في قلبك، قيد في رجلك، فأخرج الرجاء من قلبك: تحل القيد من رجلك
ويقصد بالرجاء: الأمل الدنيوي، فإنه يقيد الرجل عن الانطلاق في أعمال تتطلب التضحية وتضع إزهاق الروح واردًا في الاحتمال.

إنما ذلك الواهم فقط يغريه الأمل، أما الفطن فيدرك أنها قافلة ليست ككل قافلة، ويعلم أنها قافلة النور هو فيها، وأنها تسير في درب كله نور، قد توغلت فيه، فيحل قيود الطمع ويواكبها، ويلازم أهلها إذ يرفعون أبصارهم إلى هالة النور السابع، هو:
الالتفات إلى عيب النفس


فينشغل الداعية بإصلاح عيوبه، ويدع إعابة الآخرين، وتسقط زلاتهم.

وكان السري السقطي البغدادي يتخوف خوفا عظيما من سريان مرض تتبع عيوب الناس إلى جماعة السالكين إلى الله، فكثر تحذيره منه، وصنع إحصاءات خلقية اجتماعية لبيان مدى تأثيره السيئ وإظهار تعدد أنواع سلبياته، ووضع تقريرًا طويلا حفظت لنا منه كتب الزهد والرقائق فقرات منه كثيرة، وأجمل في خاتمته نتيجة استقرائه فقال:

ما رأيت شيئا أحبط للأعمال، ولا أفسد للقلوب، ولا أسرع في هلاك العبد، ولا أدوم للأحزان، ولا اقرب للمقت، ولا ألزم لمحبة الرياء والعجب والرياسة من قلة معرفة العبد لنفسه، ونظره في عيوب الناس.


فهي سلبيات يعددها، كل منها يكفي لتعكير صفو السكينة الإيمانية.

وقد أشار في مقدمة تقريره إلى أن: من علامة الاستدراج للعبد: عماه عن عيبه، واطلاعه على عيوب الناس.

فجعل بدايته: استدراجًا، أي تغريرًا من شيطان، يمني ضحيته بوجود بعض لذة في آخر طريق وعر بعيد ويغريها بنيلها، فتلج، فتنقطع، فينفرد بها بلا نصير أو ظهير، فيقهرها، كما يقهر الجيش أعداءه الضعاف بإظهار تراجع مفتعل يغريهم بالتوغل دون حساب خط رجعة.

ولما نودي على السري بعد ذلك للولوغ في أعراض الناس وولوج مجالس إحصاء عيوب الآخرين ناداهم بأعلى صوته:

إن في النفس لشغلا عن الناس.

وإنها لصيحة حق لها أن يصرخها كل دعاة الإسلام الآن، والخبير بتلبيس إبليس يدرك مزالق هذا الباب جيدًا.

أسباب مرض الغمز وأعراضه
والذين رصدوا أسباب هذا المرض الخبيث يؤكدون أنه ظاهرة دفاع عن النفس ليس إلا، فأصحاب العيوب يتوقعون نقدا لهم من ناصح أمين يظنونه مهاجمًا، فيتداعون إلى أخذ زمام المبادرة وتحويل الهجوم بهمز ولمز من وراء ظهر.
فأجرأ من رأيت بظهر غيب .. على عيب الرجال: ذوو العيوب
حتى باتت هذه الخصلة فاضحة لكل ذي لسان طويل، مغنية عن الفراسة، فقال السامع للمهذار:

قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيب الناس، لأن الطالب للعيوب إنما يطلب بقدر ما فيه منها.

ولذلك كان السلف عموما على أشد الخوف من هذا الخلق الردئ الذي قد يلبسه إبليس رداء النصح والأمر بالمعروف، وصاحب القلب الحي يميز هذا عن هذا بوضوح، لكنها الغفلة التي ابتأس لها التابعي عون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود حين كان يساعد أخاه عبيد الله في تطبيق نظرية تأليف الأرواح، فقال:
ما أحسب أحدًا تفرغ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه.

فالغفلة سبب ظاهر ولا شك، لولاها لاعتنى بملكه، ولشغله الغرس وجنى الثمار.
أما أهم أعراض مرض الغمز فهو تواصي مرضاه بإخفاء مناقب الغير وفضح هفواتهم.
رآهم كذلك النسابة البكري، فقال لرؤبة بن العجاج: ما أعداء المروءة؟
قال: تخبرني
قال: بنو عم السوء، إن رأوا حسنا ستره، وإن رأءا سيئا أذاعوه.
ورآهم الشاعر أيضًا، فتعجب من حالهم وكيف أنهم: إن يسمعوا الخير: يخفوه، وإن سمعوا شرًا: أذاعوه، وإن لم يسمعوا: كذبوا
ولا شر عند جماعة المؤمنين والحمد لله، لكن ذلك خلقهم دائما، لا يعجبهم ما عليه المؤمنون من الخير، فإن حدثت هفوة يعلمون ما وراءها من نية صادقة: طبلوا وزمروا.
ومن أعراض هذا المرض أيضًا: التهويل والمبالغة، واستعمال العدسة المكبرة للتفتيش عن صغائر الغير.
ذكر أبو هريرة رضي الله عه ذلك عنهم، فقال لهم: يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عين نفسه

ثم رأى الشاعر منهم معاندا بأبي الإنصاف، فجدد له قول أبي هريرة، ووبخه، وقال له:
وتعذر نفسك إما أسأت .. وغيرك بالعذر لا تعذر!
وتبصر في العين منه الذي .. وفي عينك الجذع لا تبصر!
علاج الهمز برقابة القريب
ولكن ما جعل الله من داء إلا وجعل له من الأدوية ما يذهب به.
وكأي مرض نفاقي آخر فإن الهمز يداوي أول ما يداوي بتذكر رقابة الله، فإنه الدواء العام الخاص، فيعلم أن الله نم قلبه قريب، وعلى لسانه رقيب، ويسكت تائبا، ويعزف عن صاحبه لو أتاه من الغد يدعوه إلى جلسة غيبة، ويشرح أمره، ويحدثه عن النور الذي أناره الله في قلبه فأضاء زاوية كانت فيه مظلمة، ويقول له:
يمنعني من عيب غيري الذي ***أعرفه عندي من العيب
عيبي لهم بالظن مني لهم***ولست من عيبي في ريب
إن كان عيبي غاب عنهم فقد***أحصى ذنوبي عالم الغيب
ويقول صريحة لصاحبه، ويهدده محذرًا:
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا***فيكشف الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا***ولا تعب أحدًا منهم بما فيكا

فإن لم يصغ له: تركه، ومضى في طريق الأنوار، يبدد ما قد يكون هنالك من بقايا الظلام بنور النصح مع الله الذي أوقده له زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم لما قال:
إذا نصح العبد لله تعالى في سره: أطلعه الله تعالى على مساوي عمله، فتشاغل بذنوبه عن معايب الناس.
فزين العابدين يجعل معرفة المسلم بعيوبه منحة ربانية، و أنها لكذلك والله.
فإذا قرن التائب سكوته ونصحه لله بدعاء يتضرع فيه: كما نوره السابع.
ويستحب له هنا أن يكون خلف عبد الوهاب عزام، يردد مناجاته ربه:
إن في النفس بغضه لأناس***اصلحني وحببنهم إليا
واغسل الحقد والهوى من فؤادي***واجعلني لكل حق وليا.

يقول آمين، وينطلق من فوره بعد ذاك لإتمام أنواره، ويندفع نحو ومضات: النور الثامن، وهو:
صون الأذن عن استماع الغمز
فيدعها في عافية من بعد ما عافى لسانه من تتبع زلات الناس وانتبه لعيوب نفسه، إذ:
ليس من جارحة أشد ضررا على العبد –بعد لسانه- من سمعه، لأنه أسرع رسول إلى القلب، وأقرب وقوعًا في الفتنة.
فسمعك صن عن قبيح الكلام***كصون اللسان عن النطق به
فإنك عند استماع القبيح***شريك لقائه فانتبه
وهذا ما يستدعيه التعجل الإيماني المستحب للسائر في طريق الأنوار، فإن استماعه للهماز يضيع عليه وقته الثمين إن لم يضره، ويفوت عليه الالتذاذ بمنظر شروق: النور التاسع، الساطع ببريق:
المسارة في نصيحة القادة
فلما لم يعط النبي -صلى الله عليه وسلم- جعيل بن سراقة الضمري رضي الله عنه شيئا من المال، وهو المهاجر المجاهد، وأعطى من هو دونه، وظنها سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه إهمالا لجعيل، وأراد توثيقه: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- مقترحًا:
قال سعد: فساررته قلت: مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنًا؟ قال: أو مسلمًا.
فذكر ابن حجر أن هذا الحديث يتضمن من الفقه:
أن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان
قال: وقد يتعين إذا جر الإعلان إلى مفسدة.
ولما طلبوا من أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يكلم بعض الأمراء حول أمر ضجروه منه قال: إنكم لترون أني لا أكلمه؟ إلا أسمعكم أني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه؟.
فأخبرهم أنه لم يغفل عن ذلك، وأنه كلمه، ولكن في السر، خوفا أن يستغل أهل الأهواء كلامه، فيتخذونه ذريعة إلى الفتن والمفاسد.
فلهذا يسمي هذا النور: نور أسامة، وما زال يتولي إيقاده من دعاة اليوم كل أسامة.
لا تعن سفاكًا!!
ويصور لنا أبو معبد عبد الله بن عكيم الجهني، وهو أحد قدماء التابعين المخضرمين الثقات ممن أدرك رمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، مبلغ أساه وندمه وحسرته على كلمات تفوه بها زمن عثمان رضي الله عنه نصحه بهن جهارًا، يظن أن فيه مساوئ، وحاشا الراشد الثالث من المساوئ فتلقف كلماته أصحاب الأغراض، واستباحوا دمه الشريف بهن وأمثالهن.
وراموا دم الإسلام لا من جهالة***ولا خطأ، بل حاولوه على عمد
ففي حلقة دراسية انعقدت في المدينة لتدريب وتفقيه الجيل الجديد من رجال دولة الإسلام المكلف باستدراك ما صنعته الفتنة: حاضر عبد الله بن عكيم، وطفق يلخص لهم تجارب المخلصين فقال: لا أعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان.
وكانت كلمة مثيرة منه حقا.
وتأخذ الجميع إطراقة، فما ثم إلا عيون تتبادلا لنظر مستغربة ما يقوله الرجل الصالح.
ما لهذا الشيخ البرئ المؤمن الذي لم يرفع في وجه عثمان سيفا أبدًا يتهم نفسه ويلومها على ما لم يفعل؟
وينبري جزئ لسؤاله:
يا أبا معبد: أو أعنت على دمه؟
فيقول: إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عونا على دمه.
فهو يتهم نفسه بجزء من دم عثمان لأنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنه وقام في نفسه من أنه الحق قد أدى إلى استغلال الرعاع له حين يتكلم به، وكيف طوروه حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه.
إنها حساسية النفس الصادقة في توبتها ينطق بها ابن عكيم، مع أنه ما كان يكره عثمان حين تفوه بتلك الكلمات، فإن ابنه يقول: كان أبي يحب عثمان.
وهذا يقتضي أنه قال كلماته الناقدة بلهجة المحب وما فيها من الرفق واللين، ومع ذلك نتج عنها من المفاسد ما نتج، فكيف لو أنضاف إلى علانية النقد لفظ ردئ، وعبرت عنه لهجة عنيفة؟
إن الجيل الجديد من رجال دعوة الإسلام الحديث –إذ هو يتفقه اليوم في حلقاته الدراسية لاستدراك ما صنعته فتن الأمس- مدعو إلى ملاحظة المغزى العظيم المهم لقصة عبد الله بن عكيم، وتجربته الصادقة.
لا تكن ساذجًا أيها الداعية، فإنها تحريشات من حولك لسفك دم الدعوة.
احذر، والتفت إلى عيب نفسك، وصن سمعك وسارر بنصيحتك ونقدك، ولا تعن بلسانك.

ليست هناك تعليقات :

مدارس العصر الرائجة

ليست هناك تعليقات

مــــدارس العصر الرائجة


بقلم : الدكتور توفيق الواعي

لله در القائل: "ما يفعل الأعداء من جاهل ما يفعل الجاهل من نفسه".. إن أساس بلاء الشعوب من أنفسها، ولن تستطيع أن تغيِّر الأمم شيئًا إلا إذا غيَّرت نفسها، حتى ترى الصواب صوابًا والخطأ خطأً، والنهار نهارًا، والليل ليلاً، فقد يعاب القول الصحيح إذا كان الجهل هو سيد الموقف:

وكم من عائب قولاً صحيحًا وآفته من الفهم السقيم

وكم من محب لليل الطويل والظلام الدامس إذا كان النظر عليلاً والطبيعة فاسدة والفطرة عفنة:

خفافيش أعشاها النهار بضوئه ولاءمها قطع من الليل مظلم

إن الجهل مرض عضال يستغله في الأمة كل مشعوذ أو دجال، يوظفه توظيفًا شيطانيًّا لمصلحته، ويستعين به كل داهية وديكتاتور؛ لتنفيذ مآربه وبسط سلطانه وترسيخ فشله، والغوغائية بلاء يقصم الظهور، ويكرس الخداع، ويُعوِّد الثرثرة، ويشغل عن الحقوق ويعلم التشرذم:

انظر الشعب ديون كيف يوحون إليه

ملأ الجو صياحًا بحياتي قاتليه

يا له من ببغاء عقله في أذنيه

قل لي بربك ما الذي يسيِّر شعوبًا إلى سنة 2011م بغير قانون أو حريات، أو مؤسسات حقيقية، أو اقتصاد فاعل، ما الذي يجعلها تنعم بالفقر، وترضى بالجوع، وتفرح بالبطالة، وتهلل للديكتاتوريات، وتعيش بلهاء بغير حضارة أو تقدم، وتتعشق ازدراء العالم، ما الذي يجعلها تهتف بالروح بالدم حتى تتفطر حناجرها، وعندها فقر دم، وهي فاقدة للروح والإحساس، قد حناها الدهر ونالت منها الأيام وطحنتها المآسي والدواهي:

حنتني حانيات الدهر حتى كأني راقب يدنو لصيد

قريب الخطو يحسب من رآني ولست مقيدًا أني بقيد

أما آن للسادة الذين يملكون الشعوب أن يرحموها، ويرحموا ذلها، وانكسارها وفقرها وجهلها وسذاجتها، لأنها البقرة الحلوب، والعبد المخلص، والحمال الدؤوب بغير ثمن أو كلل، ولولاهم ما زادت الأرصدة، ولا بُنيت القصور، ولا عاش مصاصو الدماء بغير دماء أو أبهات ومناصب، لا يستحقونها وهم أصفار متجمعة لا تستحي ولا تتزحزح فتفسح الطريق.

أما آن للسيرك القذر أن يتوارى ويُقلع عن المسرحيات الهزلية التي يتوارى خلفها، ويتستر بها، من انتخابات شكلية، ومؤسسات وهمية، وقوانين سرابية، وزفة سلطانية، أما آن لشيء اسمه العدالة، ولأمر اسمه الدستور، ولمصطلح اسمه القانون؛ أن يرى النور، وأن يكون له وجود في منطقتنا العربية المباركة، وأن تسمع الشعوب- ولو مرة واحدة- أن هناك كشوف حساب تقدمها السلطات إلى الأمة حتى ترى الإنجازات أو الإخفاقات التي يكون عليها المدح أو الذم، والتنحية أو التجديد؟.

أما آن للشعوب أن ترى سلطة ولو واحدة تتنحى أو تتبدل بغير الموت أو القتل؟ إن مدارس النبوغ في الحكم لا تكون دائمًا إلا عربية، ولهذا تراها دائمًا أبدية لا نهائية.

وجموع المداحين والنفعيين وفقراء الكفاءات، وتعساء العقول والأفكار والانتهازيين لا تنبت إلا في تربتنا وتحت سمائنا العظيمة، ولقد روى لي صديق قال: (جاءني يومًا بعض زملائي، وعليهم علامات الجد والاهتمام، فقلت لهم خيرًا، فقالوا لقد عزم كل منا على فتح مدرسة، فقلت: الحمد لله، هذا توفيق جيد وخطة حميدة ما أحوجنا إليها، فقال أحدهما في جد: لقد عزمت على فتح مدرسة لتخريج المنافقين، فقلت له: لا رعاك الله يا رجل، كف عن هذا المزاح الخبيث، فقال: إنني لا أمزح، هذه مدرسة رائجة سيتسابق الناس للدخول فيها؛ لأن الخريجين فيها سيعينون فور تخرجهم، أما رأيت فلانًا وفلانًا قد بلغا أعلى المناصب، وهذه هي مؤهلاتهم، وفلان وفلان اليوم في رغد من العيش، ويجري المال تحت أرجلهما، وأنني والحمد لله منافق قديم، وعندي من الخبرة ما أستطيع تلقينه لتلامذة هذه المدرسة، وسأغالي في مصاريف الدراسة، وسترى كم عدد الطالبين للالتحاق في المدرسة وسيتزاحمون على الفصول الدراسية، وسأجعل هناك تخصصات، وشهادات عليا، وجامعات، هذا يا أخي ما تحتاجه أمتنا، أمتنا لا تحتاج إلى علم، ولا تكنولوجيا، فكم من متعلم في أرقى الجامعات لا يجد قوت يومه، وكم من منافق لا يملك علمًا ولا موهبة تلقاه مرزوقًا.

وقال الآخر: سأفتح مدرسة لتخريج القادة، فأعلِّم التلميذ كيف يكون قائدًا ملهمًا؟، وما المؤهلات المطلوبة؟، وكيف يحبك الشعب بغير مجهود يُبذل أو عمل ينفع؟، كيف تحاسب الفوضى بالفوضى، وتهدم القوانين بالقوانين، وتدير الانتخابات الناجحة 100%؟، وكيف تملك عقول الغوغاء؟، وكيف تلقنهم وتشبعهم بالكلمات والوعود؟، وكيف تظل جاسمًا على صدورهم؟، وكيف تجعلهم يفدونك بالروح والدم؟، كيف تجعلهم يعشقون أمين أمين؟، وكيف تجعلهم دمى؟، وتخلق منهم أقذامًا وأصفارًا، كما تحب وتهوى؟

ها هم كما تهوى فحركهم دمى لا يفتحون بغير ما تهوى فما

إنا لنعلم أنهم قد جمِّعوا ليصفقوا إن شئت أن تتكلما

وهم الذين إذا صببت لنا الأسى هتفوا بأن تحيا البلاد وتسلما

قد كنت مكشوف النوايا فاتخذ منهم لتحقيق المطامع سلَّما

كلماتك الجوفاء كان طنينها صرخات ذئب في إهابك قد نما

وقال الثالث: إني سأفتح مدرسة للسلامة فأعلِّم الناس: كيف تكون قواعد السلامة؟، كيف تمشي جنب الحائط، وتتجنب الشبهات والاعتقالات، وتتفادى التعذيب؟، وارض بما قسم الله لك، فليس في الإمكان أبدع مما كان، ولا تعاند من إذا قال فعل، والباب الذي تأتي منه الريح سده واستريح..! وحينئذٍ صرخت فيه وقلت له: صه يا رجل والله ما أصبحت أتحمل هذا الهراء، ولكني رجعت إلى نفسي وقلت لها ما الذي أوصلنا إلى هذا الحضيض؟ أليس هو الجهل والنفاق والقهر والديكتاتورية، إنها كارثة.. إنها كارثة).. نسأل الله السلامة.

ليست هناك تعليقات :

يخربون بيوتهم••• في السودان

ليست هناك تعليقات
يخربون بيوتهم••• في الســودان

الدكتور : أبو القاسم سعد الله



من أجل عيون من يتمزق السودان أشلاء ويتحول إلى يوغسلافيا إفريقية؟ لم يبق سوى أسابيع على الاستفتاء المبرمج على بقاء الوحدة أو الانفصال بين الشمال والجنوب، وهو الاستفتاء الذي فرضه التدخل الأجنبي ومهدت له السياسة العشوائية الداخلية وحب التفرد بالسلطة والنزاع القبلي والمبالغة في الثقة بالنفس· لقد كان اتفاق (أبوجا) على إجراء الاستفتاء سابقة خطيرة دشنها السودان في جنوبه، وربما سيكون عليه أن يقبل مثله في غربه (دارفور)· وقد تسري عدوى الانفصال إلى جيرانه من الدول المتعددة العناصر والأديان واللغات.
درست حكومة السودان مشكلة الجنوب عدة مرات، ولكنها في آخر المطاف تركت حبال فرعون وعصيّه تتحول إلى ثعابين تبتلع ما تأفك وما تخطط· وكان آخر الحبال زيارة أعضاء من مجلس الأمن للسودان واختراق سيادته وإملاء الشروط عليه وتحريك الفتنة بين أهله بالاستماع إلى رؤوسها وهم يطلبون الحماية الدولية· هؤلاء الزوار غير المرغوب فيهم هم أنفسهم الذين عجزوا عن فرض قراراتهم على إسرائيل التي تنتهك القانون الدولي، وتحتل أرضا ليست لها· فإذا كانوا صادقين حقا مع أنفسهم فليواصلوا رحلتهم ويزوروا أيضا فلسطين وليستمعوا فيها إلى أنين ضحايا قرارات مجلس الأمن منذ سنة 1948 والتي بقيت حبرا على ورق.
على كل حال فإنه إذا نجحت تدخلات المجتمع الدولي على النحو الذي استعرضه أعضاؤه في السودان، فإن هذا البلد سيتحول من أكبر دول إفريقيا والعالم العربي حجما وأغناها تربة وأكثرها ثروة إلى دويلة صغيرة تعاني من الجوع والعطش نتيجة النقص المنتظر في مياه النيل وتمزيق الحدود.
ومن أسباب هذا التحول من الشبع إلى الجوع ومن الري إلى العطش أمور، نذكر منها:
أولا: تضييع فرصة التغلب على المشاكل الداخلية وحلها بالتراضي حيث ينعم جميع المواطنين بالعيش الكريم في كنف المواطنة والديمقراطية والتمتع بالخيرات التي اشتهر بها السودان.
ثانيا: سلوك النظام السوداني سياسة غير حكيمة، خاصة نحو الجنوبيين، فلم يقدر عواقب تركهم نهبا للتدخلات الأجنبية والمخططات الصهيونية الهادفة إلى تفتيت وحدة السودان من جهة وإضعاف الوطن العربي من جهة أخرى.
ثالثا: ترك الحرية لمجلس الكنائس العالمي لتمويل عدة مشاريع في الجنوب، بما فيها تكوين الجمعيات الشبابية التي ستتولى تسيير شؤون الجنوب بعد الانفصال.
رابعا: تدريب جهات أخرى لكتائب المحاربين مع توفير السلاح لهم من مختلف المصادر لكي يخوضوا الحرب الأهلية إذا لزم الأمر.
لقد تحالف النظام السوداني الحالي مع القوى الإسلامية منذ بدايته أو هو نتيجة تحالف بينهما، من أجل دعم الصحوة الإسلامية الصاعدة وقتها، فوجد نفسه عدوا للغرب الرافع لواء الحرب على الإرهاب، أي على الصحوة الإسلامية· وهكذا شن الغرب حربا عوانا على النظام السوداني على عدة جبهات، منها تشجيع دعاة الانفصال في الجنوب، ومساندة نشاط الكنائس فيه، ودعم جمعيات حقوق الإنسان المطالبة برفع الضيم عن سكان الجنوب...
وكانت أغلب هذه القوى تعمل في الخفاء ما لا تعمله في الظاهر لأنها كانت أدوات لغيرها· وهي نفس الأدوات التي حركت أهل دارفور المسلمة متخذة منها ذريعة للتدخل والتنافس من أجل النفط وغيره من الثروات، كما ألّبت على السودان بعض جيرانه، خصوصا تشاد وأوغندا وإثيوبيا··· ومن ثمة نجحت في عزل السودان عن جيرانه ونهشه من كل جانب، بينما قادته يتعاركون على السلطة مما أدى إلى زعزعة الوحدة الوطنية والتحالف الاستراتيجي.
وكان لا بد من وضع حد لهذا التحالف يوم انقلب النظام السوداني أولا على الإسلاميين ''الأجانب''، وثانيا على زعماء التحالف والمعارضة· فطرد من طرد وزج في السجن غيرهم واستأثر بالحكم بطريقة استبدادية· وقد أظهر النظام السوداني للعالم أنه متحصن بسور الصين العظيم وبمناورات لم يعد الغرب يثق فيها بسبب التذبذب في المواقف واستمرار المعارضة المسلحة ضده في الجنوب وفي دارفور.
وهكذا لم يستطع النظام السوداني أن يجند حزبه الوحيد، ولا المعارضة الوطنية الواعية، كما لم يستطع أن يحتمي بمصر، وهي الجارة الخبيرة بمشاكل السودان منذ عهد محمد علي باشا، ولم تساعده التصريحات الغامضة الصادرة عن الجامعة العربية· أما الاتحاد الإفريقي فهو يخشى أن يصيبه في قبائله وفي وحدة أعضائه الهشة ما أصاب السودان، ولذلك فهو يفضل التصريحات الجوفاء أو السكوت المريب· وأما الدول العربية، سواء المجاورة للسودان أو البعيدة عنه، فقد اكتفت بالتآمر عليه بدعوى أنه كان يأوي الإرهابيين، واللعب على أرضه من أجل الفوز بمباراة كروية، بل قاطعته أحيانا دبلوماسيا واقتصاديا
بذلك ترك السودان يصارع خطر الانفصال وحده· فنظام السودان يقف الآن أمام العالم عريانا هزيلا يمثل نموذجا لدولة أصيبت في مقاتلها فهي تعاني سكرات الموت وحدها· أما الشعب السوداني فهو ما يزال في أغلبه على الفطرة، مضيافا وديعا ولكنه بعيد عما يجري في العالم من أحابيل ومخططات وتحولات ضده· ويبدو أنه شعب مغلوب على أمره أمام شبح الانفصال، فهو بالأصالة شعب موحد منذ قرون، ولم يستطع لا الاستعمار الإنجليزي ولا الحكم الثنائي (الأنجلو - مصري) أن ينال من وحدته.
حين حصل السودان على استقلاله بعد مخاض عسير هنأه شاعر الجزائر (محمد العيد) بقوله:
فوزُ سرتْ بحديثه الركبانُ فالشرق مغتبط به جذلان
ما أسعد السودان باستقلاله فاليوم يرفع رأسَه السودان
مَن مبلغ السودانَ عنا أننا شِيَعُ له بشعورنا خِلان
(كتابنا: شاعر الجزائر··· ص .199)
ويبدو أن قادة السودان حاليا غائبون عن هذا الشعور وبعيدون عن العهد الذي يتحدث عنه الشاعر، فهم لا يحسون بما أحست به الأجيال السابقة من التضامن والوحدة، ولا بما أحس به أنصار السودان وأصدقاؤه.
إن الغرب الذي يلح على فصل السودان عن شماله هو نفسه الذي حارب الانفصال في بلدانه ولجأ حتى إلى الحرب الأهلية لفرض الوحدة على دعاة الانفصال· خذ مثلا ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، فحين أراد الجنوبيون الانفصال عن الشمال خاض قادتها حربا أهلية طاحنة وأصبح القائد الذي تمسك بالوحدة ( أبراهام لنكن) رمزا أسطوريا في بلاده· فلماذا يُحرّم الأمريكان اليوم على السودان ما أحلوه هم لأنفسهم؟ ولماذا تدعم الصين انفصال جنوب السودان بينما هي مصرة على ضم تايوان إلى ''الوطن الأم''؟ ولماذا ترفض فرنسا انفصال كورسيكا وترفض إسبانيا انفصال الباسك وتجبران السودان على قبول نتائج تصويت الجنوب على الانفصال؟
أما الأحزاب السودانية فقد دل موقفها من قضية الاستفتاء على قصر نظر وعلى أنانية مفرطة· ففي الوقت الذي ظهرت فيه قيادات أوروبية حنكتها التجارب وصقلتها الديموقراطية (مثلا هولمت كول الألماني)، نجد أحزاب السودان تدير ظهرها لبعضها وتتآمر مع الأجانب أحيانا على تمزيق وحدة الوطن· ومهما كانت نتيجة الاستفتاء فإن الحرب الأهلية تلوح في الأفق، وإن هناك من يحد السكاكين استعدادا لها· ولعل لدى الجيش السوداني خطة لإنقاذ وحدة البلاد؟ فهل ما يزال في القوس منزع؟

ليست هناك تعليقات :