ضريبة الذل . بقلم الأستاذ:سيد قطب رحمه الله

ليست هناك تعليقات

ضـــــريبـــة الــــــذل
بقلم: الشهيد سيد قطب *رحمه الله*




بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة، لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هربًا من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة، رخيصة، مفزعة، قلقة، تخاف من ظلها، وتَفْرَقُمن صداها، "يحسبون كل صيحة عليهم" ، "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة".


هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة، يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيرًا ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون.


وإنهم ليحسبون أنهم ينالون في مقابل الكرامة التي يبذلونها قربى ذوي الجاه والسلطان حين يؤدون إليهم ضريبة الذل وهم صاغرون، ولكن كم من تجربة انكشفت عن نبذ الأذلاء نبذ النواة، بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله، كم من رجل باع رجولته، ومرغ خديه في الثرى تحت أقدام السادة، وخنع، وخضع، وضحى بكل مقومات الحياة الإنسانية، وبكل المقدسات التي عرفتها البشرية، وبكل الأمانات التي ناطها الله به، أو ناطها الناس … ثم في النهاية إذا هو رخيص رخيص، هَيِّنٌ هَيِّن، حتى على السادة الذين استخدموه كالكلب الذليل، السادة الذين لهث في إثرهم، ووَصْوَصَ بذنبه لهم، ومرغ نفسه في الوحل ليحوز منهم الرضاء !
كم من رجل كان يملك أن يكون شريفًا، وأن يكون كريمًا، وأن يصون أمانة الله بين يديه، ويحافظ على كرامة الحق، وكرامة الإنسانية، وكان في موقفه هذا مرهوب الجانب، لا يملك له أحد شيئًا، حتى الذين لا يريدون له أن يرعى الأمانة، وأن يحرس الحق، وأن يستعز بالكرامة، فلما أن خان الأمانة التي بين يديه، وضعف عن تكاليف الكرامة، وتجرد من عزة الحق، هان على الذين كانوا يهابونه، وذل عند من كانوا يرهبون الحق الذي هو حارسه، ورخص عند من كانوا يحاولون شراءه، رخص حتى أعرضوا عن شرائه، ثم نُبِذَ كما تُنْبَذُ الجيفة، وركلته الأقدام، أقدام الذين كانوا يَعِدُونه ويمنونه يوم كان له من الحق جاه، ومن الكرامة هيبة، ومن الأمانة ملاذ.


كثير هم الذين يَهْوُونَ من القمة إلى السَّفْح، لا يرحمهم أحد، ولا يترحم عليهم أحد، ولا يسير في جنازتهم أحد، حتى السادة الذين في سبيلهم هَوَوْا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، ومن عزة الحق إلى مَهَاوي الضلال، ومع تكاثر العظات والتجارب فإننا ما نزال نشهد في كل يوم ضحية، ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة، ضحية تخون الله والناس، وتضحي بالأمانة وبالكرامة، ضحية تلهث في إثر السادة، وتلهث في إثر المطمع والمطمح، وتلهث وراء الوعود والسراب ….. ثم تَهْوِي وتَنْزَوِي هنالك في السفح خَانِعَةً مَهِينَة، ينظر إليها الناس في شماتة، وينظر إليها السادة في احتقار.
لقد شاهدتُ في عمري المحدود - ومازلت أشاهد - عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل، تثقل كواهلهم، وتحني هاماتهم، وتلوي أعناقهم، وتُنَكِّس رؤوسهم …. ثم يُطْرَدُون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحُسنَيَيْن في الدنيا والآخرة، ويَمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق، لا يَحُسُّ بهم أحد حتى الجلاد.


لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحراراً، ولكنهم يختارون العبودية، وفي طاقتهم أن يكونوا أقوياء، ولكنهم يختارون التخاذل، وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة …. شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهمًا، وهم يؤدون للذل دينارًا أو قنطارًا، شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه، وهم يملكون أن يَرْهَبَهم ذوو الجاه والسلطان! لا، بل شاهدت شعوبًا بأَسْرِها تُشْفِقُ من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات، ضرائب لا تُقَاس إليها تكاليف الحرية، ولا تبلغ عُشْرَ مِعْشَارِها، وقديمًا قالت اليهود لنبيها "يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون" فأَدَّتْ ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة أربعين سنة تتيه في الصحراء، تأكلها الرمال، وتذلها الغربة، وتشردها المخاوف…. وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمنًا للعزة والنصر في عالم الرجال.
إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب، فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدى للذلة والمهانة والعبودية، والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها، ولا فكاك.


فإلى الذين يَفْرَقُونَ من تكاليف الحرية، إلى الذين يخشون عاقبة الكرامة، إلى الذين يمرِّغُون خدودهم تحت مواطئ الأقدام، إلى الذين يخونون أماناتهم، ويخونون كراماتهم، ويخونون إنسانيتهم، ويخونون التضحيات العظيمة التي بذلتها أمتهم لتتحرر وتتخلص.


إلى هؤلاء جميعًا أوجه الدعوة أن ينظروا في عبر التاريخ، وفي عبر الواقع القريب، وأن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، وأن الذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة، وأن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية، وأن الذين لا يَرْهَبُون الجاه والسلطان يَرْهَبُهم الجاه والسلطان.


ولدينا أمثلة كثيرة وقريبة على الأذلاء الذين باعوا الضمائر، وخانوا الأمانات، وخذلوا الحق، وتمرغوا في التراب ثم ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، ملعونين
من الله، ملعونين من الناس، وأمثلة كذلك ولو أنها قليلة على الذين يأبون أن يذلوا، ويأبون أن يخونوا، ويأبون أن يبيعوا رجولتهم، وقد عاش من عاش منهم كريمًا، ومات من مات منهم كريمًا.

ليست هناك تعليقات :

نفوس لا ترضخ للواقع المزري

هناك تعليقان (2)
نفوس لا ترضخ للواقـــــع المزري
 
د. علي الحمادي
كان كافور الإخشيدي وصاحبه عبدين أسودين, فجيء بهما إلى قطائع ابن طولون, صاحب الديار المصرية وقتئذ, ليباعا في أسواقها, فتمنى صاحبه أن يباع لطباخ حتى يملأ بطنه بما شاء, وتمنى كافور أن يملك هذه المدينة ليحكم وينهى ويأمر, وقد بلغ كل منهما مناه, فبيع صاحب كافور لطباخ, وبيع كافور لأحد قواد المصريين فأظهر كفاءة واقتدارًا.
ولما مات مولى كافور قام مقامه, واشتهر بذكائه وكمال فطنته حتى صار رأس القواد وصاحب الكلمة عند الولاة, وما زال يجد ويجتهد حتى ملك مصر والشام وغيرهما.
مرّ كافور يومًا بصاحبه فرآه عند الطباخ بحالة سيئة, فقال لمن معه: لقد قعدت بهذا همته فكان كما ترون, وطارت بي همتي فكنت كما ترون, ولو جمعتني وإياه همة واحدة لجمعنا عمل واحد.
كم نحن بحاجة إلى تأمل حال كافور وصاحبه, ذلك لأن نفرًا من الناس يتفننون في لبس لباس صاحب كافور, وفي تقمص شخصيته وهمته وطموحاته, فتكون النتيجة مزيجًا من الفشل والقهر والهم والألم.
ليس ثمة شيء أيسر من جلد الذات, وإن كان ذلك حقًا, وقد يكون مطلوبًا في بعض الأحيان, إذ ليس حال أمتنا بحال يثلج الصدر, فاليهود يتلاعبون بها ويضحكون على ذقون نفر من أبنائها, والمال يركض إلى الغرب, والقرار السياسي لابد له أن يكون منسجمًا مع أو مغازلًا للقرار الغربي إن لم يكن تابعًا له, والعقول قد هاجرت إلى العم سام, والمناهج التربوية والتعليمية تعشعش عليها عناكبُ التخلف وغربان الضياع, وحقوق الإنسان المسلم مستباحة على أيدي الشرق والغرب, وما يحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير والشيشان وغيرها كبر شاهد على ذلك.
لقد أثبت التاريخ إن الإنسان لا يمكن له أن يقيم حضارة أو يصنع مستقبلًا ما لم يغير من نفسه ابتداءً, ثم يسير جادًا في طريق التغيير حتى يغيّر مَنْ نفسه وما حوله, وليس ذلك مستحيلًا أو بعيد المنال, بل المستحيل هو ما تجعله أنت مستحيلًا.
لأستسهلنَّ الصعب أو أبلــغ المنـى
فما انقـادت الآمــال إلا لصــابر
إنّ البداية الحقَّة للنهوض وصناعة الحياة هي في الرغبة الصادقة في إحداث شيء مؤثر, وهي في القرار الحازم الذي يتخذه الإنسان من أجل التغيير.
نحن بحاجة إلى هذه النفوس التي قررت أن لا ترضخ للواقع المزري, واعتقدت أنها قادرة على السباحة عكس التيار, كما أننا بحاجة إلى ازدراء تلك النفوس المستسلمة التي لا شموخ فيها ولا سموق.
تأمل ذلك الحوار القوي الصاعد بالمعنويات إلى عنان السماء, والذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الصحابي الجليل خباب بن الأرت لما جاءه شاكيًا حاله وحال المعذَّبين من الصحابة.
قال خباب: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة, فقلنا: ألا تستنصر لنا, ألا تدعو لنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد كان من قبلكم يُوخذ الرجل, فيحفر له في الأرض, فُيجعل فيها, ثم يُؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فُيجعل نصفين, ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه, ما يصدُّه ذلك عن دينه, والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه, ولكنكم تستعجلون ".(رواه البخاري)
ولقد فرَّ عبد الرحمن الداخل من الشام بعد سقوط الدولة الأموية على أيدي العباسيين, فلم يرضه ما آل إليه أمره, فأبى إلا التغيير, فكانت العاقبة أن شيّد ملكًا في قعر بلاد النصارى, وأقام حضارة إسلامية دامت أكثر من ثمانية قرون.
وفي عالم الإدارة والسياسة والمال حوادث كثيرة ونجاحات عديدة, فهذا مانديلا عاش ثمانية وعشرون عامًا في سجن في جنوب أفريقيا, وكان يقود التغيير ويؤججه وهو في سجنه, حتى أخرجه حاكم جنوب إفريقيا ديكلارك مرغمًا من سجنه, وأصبح مانديلا هو الحاكم, بل أصبح أسطورة, والحاكم السابق اليوم في طي النسيان, فيا للعجب!!
وماليزيا مَثَلٌ متميز في التغيير, حيث صممت أن تصبح دولة صناعية خلال عشر سنين (1986 – 1995) فغيرت من شأنها تغييرًا شاملًا واستطاعت أن تصبح كما أرادت في المدة التي رسمتها لنفسها.
ولقد تعجبت من قصة هيلين كيلر, حيث في 27/6 من عام 1880 ولدت هيلين الأمريكية العمياء والصماء والخرساء التي أصبحت أحد الأمثلة البشرية في تحقيق الذات والنجاح, ليس للمعوقين فحسب, وإنما للأسوياء وللمتفوقين منهم أيضًا, بعدما تمكنت هذه المرأة من تذليل إعاقتها الثلاثية, وعاشت حياة زاخرة بالعمل والثقافة والعطاء.
وإليك قصة أخرى مثيرة وهي قصة كاشا, حيث عندما خضع رايان كاشا (21) سنة لاختبارات الذكاء في طفولته, وتبين أن نسبة ذكائه منخفضة جدًا, وقال الأطباء إنه معاق, بدأ والداه يحاولان التكيف مع مأساتهم الجديدة, ولكن رايان تغلب على إعاقته, والتحق بالجامعة, وتخرج فيها بمرتبة الشرف.
إن العملية التغييرية وصناعة الحياة تحتاج إلى عقلاء أذكياء لا يرضيهم الواقع المعوج, ولا يركنون إلى الحال الرديء, هم في حركة دائبة, لا يكل أحدهم ولا يمل, إذْ التغيير والتفاعل والحركة هي شأن الأحياء, أما سكان اللحود والمقابر الذين فارقوا الدنيا وضمهم قبر ضيق موحش فهم أصحاب السكون والهمود والخمود،
وصدق الدكتور القرضاوي حين قال:
قالوا السعادة في السكون
وفي الخمول وفي الخمـود
في لقمة تأتي إليـــك
بغير ما جهــد جهــيد
في أن تقول كما يقـال
فلا اعتــراض ولا ردود
في أن تعيش كما يراد
ولا تـعش كمــا تـريد
قلت الحياة هي التحرك
لا السـكون ولا الهـمود
وهي التفاعل والتطور
لا التــحجر والجمــود
وهي التلذذ بالمتاعب
لا التــلذذ بالــرقـود
هي أن تعيش خليفةً
فـي الأرض شـأنك أن تـسود

هناك تعليقان (2) :