الــــــــكتاب ليس مصـــــــــريا . د.أبو القاسم سعد الله

ليست هناك تعليقات
الــــــــكتاب ليس مصـــــــــريا

 د.أبو القاسم سعد الله

ترددّت في الصحف هذه الأيام تصريحات مفادها عدم توجيه الدعوة لدور النشر المصرية للمشاركة في معرض الكتاب بالجزائر هذا الخريف. خبر -إذا صح- مزعج لأهل الفكر والثقافة لأنه سيحملهم على الجهل والعالم يتجه إلى العلم وسيحرمهم من رصيد ثري، مما تنتجه أكبر وأقدم مؤسسات النشر في الوطن العربي .
إن كل مثقف عربي على يقين من أن الكتاب ليست له جنسية، فهو ليس مصريا وليس جزائريا ولا صينيا ولا فرنسيا، ولكنه مخزون للفكر والتراث والعلم المتنقل بين الشعوب. إنه باختصار وجه لحضارة كاملة تتجاوز الأعراق والأديان والحدود السياسية والجغرافية.
 فالجاحظ والطبري والبخاري والمتنبي والخوارزمي ودواوين شعراء الجاهلية والعصرين الأموي والعباسي ودواوين شعراء الأندلس ومؤلفات ابن خلدون وابن المقفع وابن الخطيب... ليست مصرية ولا تحمل إلا جنسية واحدة هي الجنسية العربية الإسلامية التي يضيق بها ذرعا بعض "الأجناس" من قومنا حتى لا يعرفون كيف يتصرفون فيكشفون أحيانا عما تخفي صدورهم، إنهم لا يقصدون عقاب مصر، ولكن عقاب من يقرأ كتب التراث العربي الإسلامي الذي كانت مصر من رائدات إنتاجه وحمايته منذ أنشئت مطبعة بولاق وقرأ العرب لأول مرة لغتهم بالحروف الآلية بدل اليدوية.
حقيقة إن مؤلفات الطهطاوي وطه حسين والعقاد وأحمد شوقي وأحمد أمين ونجيب محفوظ، وبضع مئات آخرين ...هي مؤلفات مصرية، ولكنها في الواقع تجاوزت حدود الجغرافيا وعبّرت مختلف المساحات والحواجز بكل حرية. وإصدارات مجمع اللغة العربية ووثائق الجامعة العربية مثلا لا تقف في وجهها قناة السويس ولا صحراء ليبيا ولا جبال النوبة لأنها تحتوي على تراث أمة إسلامية وحصاد حضارة عربية ما تزال رايتها شامخة رغم أن البعض يريد لها اليوم التنكيس والاختفاء .
هذا هو حديث الأجيال في مجالس " خير صديق " في دمشق وبغداد والقيروان وتلمسان وقرطبة وفاس، وحتى في عواصم الاستشراق العريقة الممتدة من موسكو إلى باريس .
فالذين يصرحون تصريحات فردية أو قبلية أو إيديولوجية حول ناشري الكتاب "المصري" عليهم أن يدركوا أن الشعب الذي منحهم مقاليده وجعلهم على خزائنه أكبر وأعرق وأقدر منهم على التمييز "بين الجد واللعب"، بين جد القلم ولعب الكرة، بين الغضب المفتعل والعقل الواعي. وكان عليهم أن يدركوا أنه إذا كان لا بد من مقاطعة لمصر فالأجدر أن تبدأ بوقف فرق كرة القدم الغادية والرائحة بينها وبين الجزائر مسببة سوء التفاهم بين البلدين وليس بوقف استقبال الكتاب وحركة الأفكار التي تقوي اللحمة بينهما.
وإذا كانت هناك حقا ردود فعل في هذا المجال باسم "الغيرة الوطنية" فعليهم أن يبدأوا بمقاطعة دور النشر الفرنسية التي اعتدت بلادها على سيادتنا وتراثنا الثقافي وأذاقتنا مرارة الجهل حتى تركتنا في مؤخرة الشعوب الغارقة في الأمية. ولكننا - مع ذلك- لا نتبنى هذه المقاطعة ولا ندعو إليها احتراما لحرية كل الأفكار وترحيبا بإنتاج كل الحضارات .
ماذا بقي للجناح العربي في معرض الكتاب إذا قوطعت دور النشر المصرية؟، لا شك أن بعض دور النشر العربية الأخرى ستملأ بعض الفراغ، ولكن الجميع يعرفون الفرق بين ما تعرضه الدور المصرية، وما تعرضه أخواتها منذ ظهور الطباعة في الوطن العربي. فلا تستطيع أية مؤسسة عربية مهما تقدمت في صناعة الكتاب أن تعوّض دور النشر المصرية في هذا المجال (نقصد في الروح والمحتوى والهدف). لذلك فإن حضور دور النشر المصرية معرض الكتاب من مصلحة الشعب الجزائري وجامعاته ومكتباته ومثقفيه.
قد يموّه أصحابنا بالإحصاءات عن كذا دار نشر مشاركة، مما يغني عن دور النشر المصرية. وقد يغرقون المعرض بكتب دعاة السلفية الانهزامية والكتيبات المهربة التي تحث على قراءة الأوراد والأذكار والتي تقول للشباب: ناموا "ما فاز إلا النوم"، وقد تغرق المعرض بكتب "علمية" بترجمة فجة ولغة هجينة . أما حصة الأسد والذئب والفيل والجمل فستفوز بها - بدون شك - دور نشر أجنبية لا نذكرها هنا حتى لا نفتح علينا جبهة وادي النمل .
كنا كتبنا ذات مرة عن لعنة ميرانت (كتابنا: أفكار جامحة، ص 147) تعليقا على التعليمة التي أصدرها قبل الحرب العالمية الأولى جان ميرانت مدير شؤون الأهالي (الأندجين) في الجزائر. تقول التعليمة إنه من الضروري منع دخول الكتاب المصري للجزائر عن طريق الحجاج العائدين والتجار الواعين، لأن الكتاب المصري في نظر إدارة الاحتلال يتناول أمورا تقض مضجع فرنسا كالجامعة الإسلامية والنهضة العربية وحركات التحرر. وهذا ما لا يروق لسجاني الجزائر سماعه لأنهم كانوا يخشون من رياح التغيير أن تهب من الشرق وتتسرب إلى السجن الكبير. فهل نحن اليوم نعيد المسرحية بتمثيل ورثة ميرانت؟
كنا نعتقد أن سياسة الكتاب لا تتخذها جهة واحدة ولو كانت جهة مختصة تقنيا. سياسة الكتاب في نظرنا تتعلق بالسيادة التي لا يمارسها إلا من استشار واستخار لأن وراءها ليس الاقتصاد فقط، وليس الألعاب الرياضية فقط، ولكن وراءها فلسفة بعيدة المدى وأمامها علاقات مستقبلية . فكيف تصبح سياسة الكتاب في الجزائر كرة يقذف بها كل من جلس خلف مكتب وظن أنه المعز لغير لدين الله .
 دعوا مسألة الكتاب- أيها الناس- لمن يقرأ المستقبل ولمن يهمه أمر الفلسفة، لمن يقرأ ويكتب، لمن يبحث ويدرس، لمن يتابع الحركات الفكرية والمذهبية والقومية... وليصمت كل من لا يملك غير التلفيق، ولا يحسن سوى التوقيع..  


ليست هناك تعليقات :