إنه دم الدعــوة

ليست هناك تعليقات


إنه دم الدعـــــــــوة


الشيخ : محمد أحمد الراشد
يعتبر تاريخ الصدر الأول من السلف الصالح من مصادر فقه الدعوة الرئيسة، فإنهم بأفعالهم وطريقتهم في الحياة كانوا أفصح من خلف ينطلق بقلمه لتدوين فقه الدعوة من تأمل نظري مجرد. وقد حددوا بسيرتهم ما يجب للداعية من صفات، وما يسوغ للدعوة أن تسلمه من أساليب ووسائل.

فبعضهم لم يتكلم بغير حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا جملا يسيرة، ولكنه أرى الناس تطبيقا رائعًا للحديث وأفعالا شدتهم إلى الاقتداء.
وإنما يرجي لدعوة الإسلام النجاح اليوم إذا أدركت هذه الحقيقة القديمة، لا بشيء آخر، فتحرص على أن تنزل ساحة العلمانية كل جوال فعال صامت، يري الأرضيين من نفسه قوة، قبل أن يسمعهم من لسانه تفاصحًا.
ومحمد بن سيرين، التابعي البصري: قدوة من قدوات الصمت الناطق أولئك، وله مذهب في التجرد سماه صاحبه أبو قلابة الجرمي: امتلاك النفس، فقال يفاخر بابن سيرين جمعا من الدعاة:

إصرفوه حيث شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعًا، وأملككم لنفسه

فالداعية يملك نفسه، ومن ثم فهو الذي يخطط لها طريقها ومستقبلها، ولا يدعها تملكه، فإن من لم يملك نفسه: يفقد حريته، وتكون هي المستعبدة له، وإنما هذه دعوة الأحرار والأبرار، يتصدرها كل حر سريع الخطو، ومن رضى أن يكون مملوكا ويرسف في الأغلال والقيود فإنما يكون في آخر القافلة، أو تدعه وتمضى.

ومنذئذ أضيف إلى فقه الدعوة شرط جديد من شروط الدعاة يلزم المتصدي أن يملك نفسه كما ملكها ابن سيرين، وأن يحررها من القيود كما حررها ابن سيرين.

وقد قال ابن السماك من قبل:
إن الرجاء حبل في قلبك، قيد في رجلك، فأخرج الرجاء من قلبك: تحل القيد من رجلك
ويقصد بالرجاء: الأمل الدنيوي، فإنه يقيد الرجل عن الانطلاق في أعمال تتطلب التضحية وتضع إزهاق الروح واردًا في الاحتمال.

إنما ذلك الواهم فقط يغريه الأمل، أما الفطن فيدرك أنها قافلة ليست ككل قافلة، ويعلم أنها قافلة النور هو فيها، وأنها تسير في درب كله نور، قد توغلت فيه، فيحل قيود الطمع ويواكبها، ويلازم أهلها إذ يرفعون أبصارهم إلى هالة النور السابع، هو:
الالتفات إلى عيب النفس


فينشغل الداعية بإصلاح عيوبه، ويدع إعابة الآخرين، وتسقط زلاتهم.

وكان السري السقطي البغدادي يتخوف خوفا عظيما من سريان مرض تتبع عيوب الناس إلى جماعة السالكين إلى الله، فكثر تحذيره منه، وصنع إحصاءات خلقية اجتماعية لبيان مدى تأثيره السيئ وإظهار تعدد أنواع سلبياته، ووضع تقريرًا طويلا حفظت لنا منه كتب الزهد والرقائق فقرات منه كثيرة، وأجمل في خاتمته نتيجة استقرائه فقال:

ما رأيت شيئا أحبط للأعمال، ولا أفسد للقلوب، ولا أسرع في هلاك العبد، ولا أدوم للأحزان، ولا اقرب للمقت، ولا ألزم لمحبة الرياء والعجب والرياسة من قلة معرفة العبد لنفسه، ونظره في عيوب الناس.


فهي سلبيات يعددها، كل منها يكفي لتعكير صفو السكينة الإيمانية.

وقد أشار في مقدمة تقريره إلى أن: من علامة الاستدراج للعبد: عماه عن عيبه، واطلاعه على عيوب الناس.

فجعل بدايته: استدراجًا، أي تغريرًا من شيطان، يمني ضحيته بوجود بعض لذة في آخر طريق وعر بعيد ويغريها بنيلها، فتلج، فتنقطع، فينفرد بها بلا نصير أو ظهير، فيقهرها، كما يقهر الجيش أعداءه الضعاف بإظهار تراجع مفتعل يغريهم بالتوغل دون حساب خط رجعة.

ولما نودي على السري بعد ذلك للولوغ في أعراض الناس وولوج مجالس إحصاء عيوب الآخرين ناداهم بأعلى صوته:

إن في النفس لشغلا عن الناس.

وإنها لصيحة حق لها أن يصرخها كل دعاة الإسلام الآن، والخبير بتلبيس إبليس يدرك مزالق هذا الباب جيدًا.

أسباب مرض الغمز وأعراضه
والذين رصدوا أسباب هذا المرض الخبيث يؤكدون أنه ظاهرة دفاع عن النفس ليس إلا، فأصحاب العيوب يتوقعون نقدا لهم من ناصح أمين يظنونه مهاجمًا، فيتداعون إلى أخذ زمام المبادرة وتحويل الهجوم بهمز ولمز من وراء ظهر.
فأجرأ من رأيت بظهر غيب .. على عيب الرجال: ذوو العيوب
حتى باتت هذه الخصلة فاضحة لكل ذي لسان طويل، مغنية عن الفراسة، فقال السامع للمهذار:

قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيب الناس، لأن الطالب للعيوب إنما يطلب بقدر ما فيه منها.

ولذلك كان السلف عموما على أشد الخوف من هذا الخلق الردئ الذي قد يلبسه إبليس رداء النصح والأمر بالمعروف، وصاحب القلب الحي يميز هذا عن هذا بوضوح، لكنها الغفلة التي ابتأس لها التابعي عون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود حين كان يساعد أخاه عبيد الله في تطبيق نظرية تأليف الأرواح، فقال:
ما أحسب أحدًا تفرغ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه.

فالغفلة سبب ظاهر ولا شك، لولاها لاعتنى بملكه، ولشغله الغرس وجنى الثمار.
أما أهم أعراض مرض الغمز فهو تواصي مرضاه بإخفاء مناقب الغير وفضح هفواتهم.
رآهم كذلك النسابة البكري، فقال لرؤبة بن العجاج: ما أعداء المروءة؟
قال: تخبرني
قال: بنو عم السوء، إن رأوا حسنا ستره، وإن رأءا سيئا أذاعوه.
ورآهم الشاعر أيضًا، فتعجب من حالهم وكيف أنهم: إن يسمعوا الخير: يخفوه، وإن سمعوا شرًا: أذاعوه، وإن لم يسمعوا: كذبوا
ولا شر عند جماعة المؤمنين والحمد لله، لكن ذلك خلقهم دائما، لا يعجبهم ما عليه المؤمنون من الخير، فإن حدثت هفوة يعلمون ما وراءها من نية صادقة: طبلوا وزمروا.
ومن أعراض هذا المرض أيضًا: التهويل والمبالغة، واستعمال العدسة المكبرة للتفتيش عن صغائر الغير.
ذكر أبو هريرة رضي الله عه ذلك عنهم، فقال لهم: يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عين نفسه

ثم رأى الشاعر منهم معاندا بأبي الإنصاف، فجدد له قول أبي هريرة، ووبخه، وقال له:
وتعذر نفسك إما أسأت .. وغيرك بالعذر لا تعذر!
وتبصر في العين منه الذي .. وفي عينك الجذع لا تبصر!
علاج الهمز برقابة القريب
ولكن ما جعل الله من داء إلا وجعل له من الأدوية ما يذهب به.
وكأي مرض نفاقي آخر فإن الهمز يداوي أول ما يداوي بتذكر رقابة الله، فإنه الدواء العام الخاص، فيعلم أن الله نم قلبه قريب، وعلى لسانه رقيب، ويسكت تائبا، ويعزف عن صاحبه لو أتاه من الغد يدعوه إلى جلسة غيبة، ويشرح أمره، ويحدثه عن النور الذي أناره الله في قلبه فأضاء زاوية كانت فيه مظلمة، ويقول له:
يمنعني من عيب غيري الذي ***أعرفه عندي من العيب
عيبي لهم بالظن مني لهم***ولست من عيبي في ريب
إن كان عيبي غاب عنهم فقد***أحصى ذنوبي عالم الغيب
ويقول صريحة لصاحبه، ويهدده محذرًا:
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا***فيكشف الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا***ولا تعب أحدًا منهم بما فيكا

فإن لم يصغ له: تركه، ومضى في طريق الأنوار، يبدد ما قد يكون هنالك من بقايا الظلام بنور النصح مع الله الذي أوقده له زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم لما قال:
إذا نصح العبد لله تعالى في سره: أطلعه الله تعالى على مساوي عمله، فتشاغل بذنوبه عن معايب الناس.
فزين العابدين يجعل معرفة المسلم بعيوبه منحة ربانية، و أنها لكذلك والله.
فإذا قرن التائب سكوته ونصحه لله بدعاء يتضرع فيه: كما نوره السابع.
ويستحب له هنا أن يكون خلف عبد الوهاب عزام، يردد مناجاته ربه:
إن في النفس بغضه لأناس***اصلحني وحببنهم إليا
واغسل الحقد والهوى من فؤادي***واجعلني لكل حق وليا.

يقول آمين، وينطلق من فوره بعد ذاك لإتمام أنواره، ويندفع نحو ومضات: النور الثامن، وهو:
صون الأذن عن استماع الغمز
فيدعها في عافية من بعد ما عافى لسانه من تتبع زلات الناس وانتبه لعيوب نفسه، إذ:
ليس من جارحة أشد ضررا على العبد –بعد لسانه- من سمعه، لأنه أسرع رسول إلى القلب، وأقرب وقوعًا في الفتنة.
فسمعك صن عن قبيح الكلام***كصون اللسان عن النطق به
فإنك عند استماع القبيح***شريك لقائه فانتبه
وهذا ما يستدعيه التعجل الإيماني المستحب للسائر في طريق الأنوار، فإن استماعه للهماز يضيع عليه وقته الثمين إن لم يضره، ويفوت عليه الالتذاذ بمنظر شروق: النور التاسع، الساطع ببريق:
المسارة في نصيحة القادة
فلما لم يعط النبي -صلى الله عليه وسلم- جعيل بن سراقة الضمري رضي الله عنه شيئا من المال، وهو المهاجر المجاهد، وأعطى من هو دونه، وظنها سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه إهمالا لجعيل، وأراد توثيقه: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- مقترحًا:
قال سعد: فساررته قلت: مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنًا؟ قال: أو مسلمًا.
فذكر ابن حجر أن هذا الحديث يتضمن من الفقه:
أن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان
قال: وقد يتعين إذا جر الإعلان إلى مفسدة.
ولما طلبوا من أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يكلم بعض الأمراء حول أمر ضجروه منه قال: إنكم لترون أني لا أكلمه؟ إلا أسمعكم أني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه؟.
فأخبرهم أنه لم يغفل عن ذلك، وأنه كلمه، ولكن في السر، خوفا أن يستغل أهل الأهواء كلامه، فيتخذونه ذريعة إلى الفتن والمفاسد.
فلهذا يسمي هذا النور: نور أسامة، وما زال يتولي إيقاده من دعاة اليوم كل أسامة.
لا تعن سفاكًا!!
ويصور لنا أبو معبد عبد الله بن عكيم الجهني، وهو أحد قدماء التابعين المخضرمين الثقات ممن أدرك رمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، مبلغ أساه وندمه وحسرته على كلمات تفوه بها زمن عثمان رضي الله عنه نصحه بهن جهارًا، يظن أن فيه مساوئ، وحاشا الراشد الثالث من المساوئ فتلقف كلماته أصحاب الأغراض، واستباحوا دمه الشريف بهن وأمثالهن.
وراموا دم الإسلام لا من جهالة***ولا خطأ، بل حاولوه على عمد
ففي حلقة دراسية انعقدت في المدينة لتدريب وتفقيه الجيل الجديد من رجال دولة الإسلام المكلف باستدراك ما صنعته الفتنة: حاضر عبد الله بن عكيم، وطفق يلخص لهم تجارب المخلصين فقال: لا أعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان.
وكانت كلمة مثيرة منه حقا.
وتأخذ الجميع إطراقة، فما ثم إلا عيون تتبادلا لنظر مستغربة ما يقوله الرجل الصالح.
ما لهذا الشيخ البرئ المؤمن الذي لم يرفع في وجه عثمان سيفا أبدًا يتهم نفسه ويلومها على ما لم يفعل؟
وينبري جزئ لسؤاله:
يا أبا معبد: أو أعنت على دمه؟
فيقول: إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عونا على دمه.
فهو يتهم نفسه بجزء من دم عثمان لأنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنه وقام في نفسه من أنه الحق قد أدى إلى استغلال الرعاع له حين يتكلم به، وكيف طوروه حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه.
إنها حساسية النفس الصادقة في توبتها ينطق بها ابن عكيم، مع أنه ما كان يكره عثمان حين تفوه بتلك الكلمات، فإن ابنه يقول: كان أبي يحب عثمان.
وهذا يقتضي أنه قال كلماته الناقدة بلهجة المحب وما فيها من الرفق واللين، ومع ذلك نتج عنها من المفاسد ما نتج، فكيف لو أنضاف إلى علانية النقد لفظ ردئ، وعبرت عنه لهجة عنيفة؟
إن الجيل الجديد من رجال دعوة الإسلام الحديث –إذ هو يتفقه اليوم في حلقاته الدراسية لاستدراك ما صنعته فتن الأمس- مدعو إلى ملاحظة المغزى العظيم المهم لقصة عبد الله بن عكيم، وتجربته الصادقة.
لا تكن ساذجًا أيها الداعية، فإنها تحريشات من حولك لسفك دم الدعوة.
احذر، والتفت إلى عيب نفسك، وصن سمعك وسارر بنصيحتك ونقدك، ولا تعن بلسانك.

ليست هناك تعليقات :

مدارس العصر الرائجة

ليست هناك تعليقات

مــــدارس العصر الرائجة


بقلم : الدكتور توفيق الواعي

لله در القائل: "ما يفعل الأعداء من جاهل ما يفعل الجاهل من نفسه".. إن أساس بلاء الشعوب من أنفسها، ولن تستطيع أن تغيِّر الأمم شيئًا إلا إذا غيَّرت نفسها، حتى ترى الصواب صوابًا والخطأ خطأً، والنهار نهارًا، والليل ليلاً، فقد يعاب القول الصحيح إذا كان الجهل هو سيد الموقف:

وكم من عائب قولاً صحيحًا وآفته من الفهم السقيم

وكم من محب لليل الطويل والظلام الدامس إذا كان النظر عليلاً والطبيعة فاسدة والفطرة عفنة:

خفافيش أعشاها النهار بضوئه ولاءمها قطع من الليل مظلم

إن الجهل مرض عضال يستغله في الأمة كل مشعوذ أو دجال، يوظفه توظيفًا شيطانيًّا لمصلحته، ويستعين به كل داهية وديكتاتور؛ لتنفيذ مآربه وبسط سلطانه وترسيخ فشله، والغوغائية بلاء يقصم الظهور، ويكرس الخداع، ويُعوِّد الثرثرة، ويشغل عن الحقوق ويعلم التشرذم:

انظر الشعب ديون كيف يوحون إليه

ملأ الجو صياحًا بحياتي قاتليه

يا له من ببغاء عقله في أذنيه

قل لي بربك ما الذي يسيِّر شعوبًا إلى سنة 2011م بغير قانون أو حريات، أو مؤسسات حقيقية، أو اقتصاد فاعل، ما الذي يجعلها تنعم بالفقر، وترضى بالجوع، وتفرح بالبطالة، وتهلل للديكتاتوريات، وتعيش بلهاء بغير حضارة أو تقدم، وتتعشق ازدراء العالم، ما الذي يجعلها تهتف بالروح بالدم حتى تتفطر حناجرها، وعندها فقر دم، وهي فاقدة للروح والإحساس، قد حناها الدهر ونالت منها الأيام وطحنتها المآسي والدواهي:

حنتني حانيات الدهر حتى كأني راقب يدنو لصيد

قريب الخطو يحسب من رآني ولست مقيدًا أني بقيد

أما آن للسادة الذين يملكون الشعوب أن يرحموها، ويرحموا ذلها، وانكسارها وفقرها وجهلها وسذاجتها، لأنها البقرة الحلوب، والعبد المخلص، والحمال الدؤوب بغير ثمن أو كلل، ولولاهم ما زادت الأرصدة، ولا بُنيت القصور، ولا عاش مصاصو الدماء بغير دماء أو أبهات ومناصب، لا يستحقونها وهم أصفار متجمعة لا تستحي ولا تتزحزح فتفسح الطريق.

أما آن للسيرك القذر أن يتوارى ويُقلع عن المسرحيات الهزلية التي يتوارى خلفها، ويتستر بها، من انتخابات شكلية، ومؤسسات وهمية، وقوانين سرابية، وزفة سلطانية، أما آن لشيء اسمه العدالة، ولأمر اسمه الدستور، ولمصطلح اسمه القانون؛ أن يرى النور، وأن يكون له وجود في منطقتنا العربية المباركة، وأن تسمع الشعوب- ولو مرة واحدة- أن هناك كشوف حساب تقدمها السلطات إلى الأمة حتى ترى الإنجازات أو الإخفاقات التي يكون عليها المدح أو الذم، والتنحية أو التجديد؟.

أما آن للشعوب أن ترى سلطة ولو واحدة تتنحى أو تتبدل بغير الموت أو القتل؟ إن مدارس النبوغ في الحكم لا تكون دائمًا إلا عربية، ولهذا تراها دائمًا أبدية لا نهائية.

وجموع المداحين والنفعيين وفقراء الكفاءات، وتعساء العقول والأفكار والانتهازيين لا تنبت إلا في تربتنا وتحت سمائنا العظيمة، ولقد روى لي صديق قال: (جاءني يومًا بعض زملائي، وعليهم علامات الجد والاهتمام، فقلت لهم خيرًا، فقالوا لقد عزم كل منا على فتح مدرسة، فقلت: الحمد لله، هذا توفيق جيد وخطة حميدة ما أحوجنا إليها، فقال أحدهما في جد: لقد عزمت على فتح مدرسة لتخريج المنافقين، فقلت له: لا رعاك الله يا رجل، كف عن هذا المزاح الخبيث، فقال: إنني لا أمزح، هذه مدرسة رائجة سيتسابق الناس للدخول فيها؛ لأن الخريجين فيها سيعينون فور تخرجهم، أما رأيت فلانًا وفلانًا قد بلغا أعلى المناصب، وهذه هي مؤهلاتهم، وفلان وفلان اليوم في رغد من العيش، ويجري المال تحت أرجلهما، وأنني والحمد لله منافق قديم، وعندي من الخبرة ما أستطيع تلقينه لتلامذة هذه المدرسة، وسأغالي في مصاريف الدراسة، وسترى كم عدد الطالبين للالتحاق في المدرسة وسيتزاحمون على الفصول الدراسية، وسأجعل هناك تخصصات، وشهادات عليا، وجامعات، هذا يا أخي ما تحتاجه أمتنا، أمتنا لا تحتاج إلى علم، ولا تكنولوجيا، فكم من متعلم في أرقى الجامعات لا يجد قوت يومه، وكم من منافق لا يملك علمًا ولا موهبة تلقاه مرزوقًا.

وقال الآخر: سأفتح مدرسة لتخريج القادة، فأعلِّم التلميذ كيف يكون قائدًا ملهمًا؟، وما المؤهلات المطلوبة؟، وكيف يحبك الشعب بغير مجهود يُبذل أو عمل ينفع؟، كيف تحاسب الفوضى بالفوضى، وتهدم القوانين بالقوانين، وتدير الانتخابات الناجحة 100%؟، وكيف تملك عقول الغوغاء؟، وكيف تلقنهم وتشبعهم بالكلمات والوعود؟، وكيف تظل جاسمًا على صدورهم؟، وكيف تجعلهم يفدونك بالروح والدم؟، كيف تجعلهم يعشقون أمين أمين؟، وكيف تجعلهم دمى؟، وتخلق منهم أقذامًا وأصفارًا، كما تحب وتهوى؟

ها هم كما تهوى فحركهم دمى لا يفتحون بغير ما تهوى فما

إنا لنعلم أنهم قد جمِّعوا ليصفقوا إن شئت أن تتكلما

وهم الذين إذا صببت لنا الأسى هتفوا بأن تحيا البلاد وتسلما

قد كنت مكشوف النوايا فاتخذ منهم لتحقيق المطامع سلَّما

كلماتك الجوفاء كان طنينها صرخات ذئب في إهابك قد نما

وقال الثالث: إني سأفتح مدرسة للسلامة فأعلِّم الناس: كيف تكون قواعد السلامة؟، كيف تمشي جنب الحائط، وتتجنب الشبهات والاعتقالات، وتتفادى التعذيب؟، وارض بما قسم الله لك، فليس في الإمكان أبدع مما كان، ولا تعاند من إذا قال فعل، والباب الذي تأتي منه الريح سده واستريح..! وحينئذٍ صرخت فيه وقلت له: صه يا رجل والله ما أصبحت أتحمل هذا الهراء، ولكني رجعت إلى نفسي وقلت لها ما الذي أوصلنا إلى هذا الحضيض؟ أليس هو الجهل والنفاق والقهر والديكتاتورية، إنها كارثة.. إنها كارثة).. نسأل الله السلامة.

ليست هناك تعليقات :

يخربون بيوتهم••• في السودان

ليست هناك تعليقات
يخربون بيوتهم••• في الســودان

الدكتور : أبو القاسم سعد الله



من أجل عيون من يتمزق السودان أشلاء ويتحول إلى يوغسلافيا إفريقية؟ لم يبق سوى أسابيع على الاستفتاء المبرمج على بقاء الوحدة أو الانفصال بين الشمال والجنوب، وهو الاستفتاء الذي فرضه التدخل الأجنبي ومهدت له السياسة العشوائية الداخلية وحب التفرد بالسلطة والنزاع القبلي والمبالغة في الثقة بالنفس· لقد كان اتفاق (أبوجا) على إجراء الاستفتاء سابقة خطيرة دشنها السودان في جنوبه، وربما سيكون عليه أن يقبل مثله في غربه (دارفور)· وقد تسري عدوى الانفصال إلى جيرانه من الدول المتعددة العناصر والأديان واللغات.
درست حكومة السودان مشكلة الجنوب عدة مرات، ولكنها في آخر المطاف تركت حبال فرعون وعصيّه تتحول إلى ثعابين تبتلع ما تأفك وما تخطط· وكان آخر الحبال زيارة أعضاء من مجلس الأمن للسودان واختراق سيادته وإملاء الشروط عليه وتحريك الفتنة بين أهله بالاستماع إلى رؤوسها وهم يطلبون الحماية الدولية· هؤلاء الزوار غير المرغوب فيهم هم أنفسهم الذين عجزوا عن فرض قراراتهم على إسرائيل التي تنتهك القانون الدولي، وتحتل أرضا ليست لها· فإذا كانوا صادقين حقا مع أنفسهم فليواصلوا رحلتهم ويزوروا أيضا فلسطين وليستمعوا فيها إلى أنين ضحايا قرارات مجلس الأمن منذ سنة 1948 والتي بقيت حبرا على ورق.
على كل حال فإنه إذا نجحت تدخلات المجتمع الدولي على النحو الذي استعرضه أعضاؤه في السودان، فإن هذا البلد سيتحول من أكبر دول إفريقيا والعالم العربي حجما وأغناها تربة وأكثرها ثروة إلى دويلة صغيرة تعاني من الجوع والعطش نتيجة النقص المنتظر في مياه النيل وتمزيق الحدود.
ومن أسباب هذا التحول من الشبع إلى الجوع ومن الري إلى العطش أمور، نذكر منها:
أولا: تضييع فرصة التغلب على المشاكل الداخلية وحلها بالتراضي حيث ينعم جميع المواطنين بالعيش الكريم في كنف المواطنة والديمقراطية والتمتع بالخيرات التي اشتهر بها السودان.
ثانيا: سلوك النظام السوداني سياسة غير حكيمة، خاصة نحو الجنوبيين، فلم يقدر عواقب تركهم نهبا للتدخلات الأجنبية والمخططات الصهيونية الهادفة إلى تفتيت وحدة السودان من جهة وإضعاف الوطن العربي من جهة أخرى.
ثالثا: ترك الحرية لمجلس الكنائس العالمي لتمويل عدة مشاريع في الجنوب، بما فيها تكوين الجمعيات الشبابية التي ستتولى تسيير شؤون الجنوب بعد الانفصال.
رابعا: تدريب جهات أخرى لكتائب المحاربين مع توفير السلاح لهم من مختلف المصادر لكي يخوضوا الحرب الأهلية إذا لزم الأمر.
لقد تحالف النظام السوداني الحالي مع القوى الإسلامية منذ بدايته أو هو نتيجة تحالف بينهما، من أجل دعم الصحوة الإسلامية الصاعدة وقتها، فوجد نفسه عدوا للغرب الرافع لواء الحرب على الإرهاب، أي على الصحوة الإسلامية· وهكذا شن الغرب حربا عوانا على النظام السوداني على عدة جبهات، منها تشجيع دعاة الانفصال في الجنوب، ومساندة نشاط الكنائس فيه، ودعم جمعيات حقوق الإنسان المطالبة برفع الضيم عن سكان الجنوب...
وكانت أغلب هذه القوى تعمل في الخفاء ما لا تعمله في الظاهر لأنها كانت أدوات لغيرها· وهي نفس الأدوات التي حركت أهل دارفور المسلمة متخذة منها ذريعة للتدخل والتنافس من أجل النفط وغيره من الثروات، كما ألّبت على السودان بعض جيرانه، خصوصا تشاد وأوغندا وإثيوبيا··· ومن ثمة نجحت في عزل السودان عن جيرانه ونهشه من كل جانب، بينما قادته يتعاركون على السلطة مما أدى إلى زعزعة الوحدة الوطنية والتحالف الاستراتيجي.
وكان لا بد من وضع حد لهذا التحالف يوم انقلب النظام السوداني أولا على الإسلاميين ''الأجانب''، وثانيا على زعماء التحالف والمعارضة· فطرد من طرد وزج في السجن غيرهم واستأثر بالحكم بطريقة استبدادية· وقد أظهر النظام السوداني للعالم أنه متحصن بسور الصين العظيم وبمناورات لم يعد الغرب يثق فيها بسبب التذبذب في المواقف واستمرار المعارضة المسلحة ضده في الجنوب وفي دارفور.
وهكذا لم يستطع النظام السوداني أن يجند حزبه الوحيد، ولا المعارضة الوطنية الواعية، كما لم يستطع أن يحتمي بمصر، وهي الجارة الخبيرة بمشاكل السودان منذ عهد محمد علي باشا، ولم تساعده التصريحات الغامضة الصادرة عن الجامعة العربية· أما الاتحاد الإفريقي فهو يخشى أن يصيبه في قبائله وفي وحدة أعضائه الهشة ما أصاب السودان، ولذلك فهو يفضل التصريحات الجوفاء أو السكوت المريب· وأما الدول العربية، سواء المجاورة للسودان أو البعيدة عنه، فقد اكتفت بالتآمر عليه بدعوى أنه كان يأوي الإرهابيين، واللعب على أرضه من أجل الفوز بمباراة كروية، بل قاطعته أحيانا دبلوماسيا واقتصاديا
بذلك ترك السودان يصارع خطر الانفصال وحده· فنظام السودان يقف الآن أمام العالم عريانا هزيلا يمثل نموذجا لدولة أصيبت في مقاتلها فهي تعاني سكرات الموت وحدها· أما الشعب السوداني فهو ما يزال في أغلبه على الفطرة، مضيافا وديعا ولكنه بعيد عما يجري في العالم من أحابيل ومخططات وتحولات ضده· ويبدو أنه شعب مغلوب على أمره أمام شبح الانفصال، فهو بالأصالة شعب موحد منذ قرون، ولم يستطع لا الاستعمار الإنجليزي ولا الحكم الثنائي (الأنجلو - مصري) أن ينال من وحدته.
حين حصل السودان على استقلاله بعد مخاض عسير هنأه شاعر الجزائر (محمد العيد) بقوله:
فوزُ سرتْ بحديثه الركبانُ فالشرق مغتبط به جذلان
ما أسعد السودان باستقلاله فاليوم يرفع رأسَه السودان
مَن مبلغ السودانَ عنا أننا شِيَعُ له بشعورنا خِلان
(كتابنا: شاعر الجزائر··· ص .199)
ويبدو أن قادة السودان حاليا غائبون عن هذا الشعور وبعيدون عن العهد الذي يتحدث عنه الشاعر، فهم لا يحسون بما أحست به الأجيال السابقة من التضامن والوحدة، ولا بما أحس به أنصار السودان وأصدقاؤه.
إن الغرب الذي يلح على فصل السودان عن شماله هو نفسه الذي حارب الانفصال في بلدانه ولجأ حتى إلى الحرب الأهلية لفرض الوحدة على دعاة الانفصال· خذ مثلا ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، فحين أراد الجنوبيون الانفصال عن الشمال خاض قادتها حربا أهلية طاحنة وأصبح القائد الذي تمسك بالوحدة ( أبراهام لنكن) رمزا أسطوريا في بلاده· فلماذا يُحرّم الأمريكان اليوم على السودان ما أحلوه هم لأنفسهم؟ ولماذا تدعم الصين انفصال جنوب السودان بينما هي مصرة على ضم تايوان إلى ''الوطن الأم''؟ ولماذا ترفض فرنسا انفصال كورسيكا وترفض إسبانيا انفصال الباسك وتجبران السودان على قبول نتائج تصويت الجنوب على الانفصال؟
أما الأحزاب السودانية فقد دل موقفها من قضية الاستفتاء على قصر نظر وعلى أنانية مفرطة· ففي الوقت الذي ظهرت فيه قيادات أوروبية حنكتها التجارب وصقلتها الديموقراطية (مثلا هولمت كول الألماني)، نجد أحزاب السودان تدير ظهرها لبعضها وتتآمر مع الأجانب أحيانا على تمزيق وحدة الوطن· ومهما كانت نتيجة الاستفتاء فإن الحرب الأهلية تلوح في الأفق، وإن هناك من يحد السكاكين استعدادا لها· ولعل لدى الجيش السوداني خطة لإنقاذ وحدة البلاد؟ فهل ما يزال في القوس منزع؟

ليست هناك تعليقات :

خريطة المستفيدين من انفصال جنوب السودان

ليست هناك تعليقات

خريطة المستفيدين
من انفصال جنوب السودان

منذ وضع الاحتلال البريطاني أقدامه في السودان عام 1896م لم يقتصر دوره على نهب ثروات هذا البلد الغني بالمقدرات الطبيعية، كما حدث في معظم الدول التي احتلَّها، سواء في إفريقيا أو بلاد الهند؛ حيث مثَّل السودان بالنسبة للاحتلال البريطاني أهميةً خاصةً، فهو يعد بوابة المد الإسلامي الذي يمكن أن يصل إلى العمق الإفريقي، وقد عملت بريطانيا طوال سنوات الاحتلال بكل الوسائل لمنع الإسلام من الوصول إلى "كيب تاون" عاصمة جنوب إفريقيا، التي كانت واقعة أيضًا تحت الاحتلال البريطاني، وفي منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي بدأت خطة بريطانيا مدعومة بمجلس الكنائس العالمي في الدعوة إلى انفصال الجنوب حتى يكون وطنًا منفصلا يدين بالمسيحية؛ لمواجهة دولة المسلمين في الشمال، ويكون الجنوب حائط صدٍّ لأي مد إسلامي لعمق إفريقيا، نتيجة تشبع الشعب السوداني بالتيارات الإسلامية المختلفة التي كانت أبرزها الصوفية، فضلا إلى ضعف دور إثيوبيا التي كان منوطًا بها القيام بهذا الدور.

إلا أن الاحتلال البريطاني وجد أن الجنوب لا يصلح أن يكون دولةً منفصلةً، وأن أفضل شيء أن يظل تحت إدارة الشمال، مع زيادة النشاط التبشيري من أجل أن يكون مسيحيو الجنوب هم أنفسهم حائط صد ضد انتشار الإسلام، وقد توصلت الحكومة البريطانية قبل انسحابها من السودان إلى هذه النتيجة، بعد أن استطلعت أراء كل المسئولين البريطانيين الذين تولوا شئون السودان سواء في الشمال أو الجنوب.

ورغم انتهاء الاحتلال البريطاني ثم انفصال السودان عن مصر، إلا أن هناك احتلالا من نوع آخر حدث لجنوب السودان، وهو احتلال الكنائس التي زرعها الاحتلال البريطاني بالتنسيق مع مجلس الكنائس العالمي، حتى أصبح لهذا المجلس أكثر من 500 إرسالية منتشرة في جنوب السودان، حتى وقتنا هذا، لها تأثيرها الفاعل في تحريك قيادات الحركة الشعبية، ودفعهم إلى الانفصال عن الشمال، هذا التوجه من قِبَل مجلس الكنائس العالمي صاحب توجُّهات أخرى لدول وهيئات متعددة تجمعت كلها على أهمية الانفصال لما يحقق مميزات كبيرة تحمي مصالحهم المختلفة، وفي السطور القادمة نوضح المستفيدين من انفصال جنوب السودان:

1- مجلس الكنائس العالمي

لعب مجلس الكنائس العالمي دورًا كبيرًا في عمليات التبشير ليس في جنوب السودان فقط، وإنما في كل إفريقيا بل إنه حاول أيضًا الدخول في قلب السودان؛ حيث الأغلبية المسلمة، مستغلا في ذلك فقر البشر وتخلفهم وحاجتهم لما يسد جوعهم وعطشهم، وقد استخدم المجلس - من خلال كنائسه في جنوب السودان التي وصلت إلى 500 كنيسة وإرسالية - كل الأساليب من أجل جذب أهل الجنوب إليها، وقد وضعت في كثير من الأوقات شروطًا لتوزيع معوناتها التي كان من أبرزها تقدمها لكل المسيحيين بمختلف أعمارهم، بينما تقدم إلى غيرهم من المسلمين والوثنيين للأطفال والنساء فقط، ما دفع المسلمين والوثنيين إلى تسمية أنفسهم وأبنائهم بأسماء مسيحية من أجل الحصول على معونات الكنائس التي كانت تتخذ من إثيوبيا قاعدة لانطلاقها في الجنوب.

وهو ما كشفه "آشوك كولن يانق" الأمين العام لمجلس الكنائس العالمي لوسط وشرق إفريقيا سابقًا" بعد إسلامه؛ حيث أوضح المخططات التي كانت تتبعها الآلاف من المنظمات الغربية الكنسية في تنصير المسلمين عبر وسائل وأساليب متعددة، منها الغطاء الإنساني، وسلاح المعونات، وممارسة الضغوط على الحكومات العربية والإسلامية حتى تستجيب للمطالب الغربية.

وقد حذَّر تقرير أمني سوداني تم نشره عام 2007م من نشاط الهيئات التنصيرية في جنوب السودان، مستدلا بما قاله المنصِّر الإيطالي الشهير (دانيال كمبوني)، الذي أخذ العهد على نفسه وهو يشهد احتضار أحد القساوسة بأن ينذر حياته لتنصير إفريقيا أو الموت على درب من سبقوه، وبدأ القس (ليوللن قوبي) تأسيسه للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية بشعار (إعادة نصب راية المسيح التي سقطت) ويقول: "إن على الكنيسة ألا تخلد إلى الراحة حتى تستعيد ما كان لها مرةً أخرى".

وطبقًا للتقرير الأمني فإن دوائر التنصير تتحدث عن إقليم الجنوب السوداني كما لو أنه ملك لهم وحدهم لا يسع أحدًا أن يزاحمهم فيه، رغم أن تلك الكنائس لم تقدِّم إلى أهل الجنوب طوال قرن ونصف القرن ما يصلح أن تنبني عليه حضارة.

وأشار التقرير إلى ورقة عمل قدَّمها مجلس الكنائس السوداني ضمن اجتماع مجلس عموم كنائس إفريقيا في لومي عام 1987م بعنوان (إنقاذ السودان): والتي نادى فيها بضرورة إيجاد السودان الجديد الخالي من السيطرة العربية، وطالبت الورقة بدعم مجلس الكنائس الإفريقي والعالمي لإيجاده.

المصالح والقرن الإفريقي

2- الولايات المتحدة الأمريكية

تعد الولايات المتحدة الأمريكية التي يهمها انفصال الجنوب ورغم تباين وجهات النظر داخل الإدارة الأمريكية في مراحل سابقة حول جدوى الانفصال، وأن هذا الانفصال سيعطي دفعةً للحكومة الإسلامية في الشمال التي تصر على تطبيق الشريعة الإسلامية من خلال تنفيذ برامج تنموية، بعد التخلص من عبء الجنوب، إلا أنه خلال الأعوام الأخيرة اتفقت هذه الأراء المتباينة على دعم الحركات الانفصالية الجنوبية، وتقويتها بعدة أشكال من أجل ترسيخ مفهوم الانفصال وإنشاء دولة جنوبية ترفع شعار العلمانية في مواجهة الحكومة التي ترفع شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، وأصبح للمبعوث الأمريكي الخاص بالسودان سكوت جريشن، تأثير واضح على رسم مستقبل الاستفتاء القادم، بل لعب هذا المبعوث دورًا كبيرًا في استبعاد كل القيادات الجنوبية المطالبة بالوحدة، أو التي تحبذها عن الانفصال، من دوائر صناعة القرار، وخاصة من الدوائر القريبة جدًّا من رئيس حكومة الجنوب سيلفا كير، ولعل هذا ترجمه مؤخرًا زيارة وفد سوداني في مطلع أكتوبر الجاري إلى الولايات المتحدة، والتي التقى فيها سيلفا كير الرئيس باراك أوباما، وخرج بعدها ليعلن أنه سوف يصوت لصالح الانفصال.

وللولايات المتحدة أكثر من هدف لانفصال الجنوب، منها أهداف متعلقة بالحرب على الإسلام وحصاره حتى لا يمتد إلى قارة إفريقيا، وهي بذلك تنفِّذ وتساير هدف مجلس الكنائس العالمي، وهو ما أعلن عنه الرئيس الأمريكي السابق جورج دابيلو بوش بقوله "إنه سيتصدى لحفظ كرامة الإنسان وضمان الحريات الدينية في كل مكان في العالم من كوبا إلى الصين إلى جنوب السودان".

وهو ما ذهب إليه أيضًا القس فرانكلين جراهام - المعروف بعدائه للإسلام - في مقال نشرته الصحف الأمريكية أكد فيه أنه يخطط لإعادة بناء مئات الكنائس التي دُمرت في جنوب السودان، مبررًا ذلك بالحرب على كنيسة المسيح في إفريقيا!.

مشروع أفريكوم العسكري

ويأتي الهدف العسكري كأحد أبرز الأهداف الأمريكية من الوجود في السودان، وهو ما ترجمه مشروع "أفريكوم" الذي ظهرت فكرته إلى النور عام 2003م، ويهدف المشروع إلى بناء قواعد عسكرية في إفريقيا، ورغم العروض التي قدمتها كل من ليبريا وإثيوبيا لاستضافة (إفريكوم)، إلا أن الإدارة الأمريكية وجدت ضالتها للسيطرة على العمق الإفريقي من خلال دولة جنوب السودان، وقد كشف الباحث السوداني عاصم فتح الرحمن أحمد الحاج في دراسة حول أسباب دعم الولايات المتحدة لانفصال الجنوب، عن خفايا عديدة في مشروع أفريكوم، مستدلا بتصريحات الجنرال جيمس جونز قائد القوات الأمريكية فى أوروبا عن عزم الولايات المتحدة الأمريكية الوجود على أراضي القارة السمراء؛ حيث أنها لا تريد أن تبقى بعيدًا عن ما يحدث في إفريقيا، وأنه لم يعد بمقدور القوات الأمريكية أن تظل تراقب الأوضاع في القارة الإفريقية من على البحر؛ لذلك لا بد من أن يكون هناك وجود أمريكي على الأرض الإفريقية، خاصة في دول شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، وهو الهدف نفسه الذي طالبت به إستراتيجية مجلس الطاقة الأمريكية والذي يعرف بتقرير "ديك تشيني" الذي دعا الإدارة الأمريكية إلى إنشاء قواعد عسكرية في كل المناطق التي تحتوي على النفط في العالم، بدءًا من كازخستان وحتى أنجولا في إفريقيا، وعلى ضوء هذا التقرير أعلن وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس في 6 فبراير من 2007م أمام لجنة التسلح في مجلس الشيوخ الأمريكي أن الرئيس الأمريكي السابق جوج دبليو بوش قد أصدر قرارًا بإنشاء قيادة عسكرية جديدة في إفريقيا.

وقد عملت الولايات المتحدة على تعزيز وجودها في الجنوب من خلال 35 منظمةً دولية أمريكية منتشرة في مختلف أرجاء السودان، وتمثِّل 19% من كل المؤسسات الدولية العاملة في السودان ككل، وللولايات المتحدة حوالي 390 يعملون في مؤسساتها بالسودان إضافة 220 مـوظفًا يعملون في مختلف الوكالات الدولية غير الأمريكية، ليشكلوا بذلك 34% تقريبا من الوجود الأجنبي في السودان ككل.

التوغل ضد مصر

3- الكيان الصهيوني

الكيان الصهيوني له أذرع وأياد عديدة تلعب في الجنوب من أجل الانفصال، وإن كان الكيان غير حاضر في المشهد بشكل رسمي إلا أنه متوغل في معظم الهيئات الدولية والإغاثية المنتشرة في جنوب السودان، كما أنه يسيطر على فنادق ومطاعم الجنوب من خلال الشركات الكينية والأوغندية والإثيوبية المالكة والمشغلة لهذه المشروعات.

وتعد السيطرة على نهر النيل لخنق مصر وشل حركتها هو الهدف الأساسي للتوغل الصهيوني في جنوب السودان، وقد أدركت الحركة الشعبية لتحرير السودان ذلك جيدًا، فتفانت في نسج خيوط التقارب والتعاون مع الكيان الصهيوني، وكان آخرها الإعلان الصريح من وزير الإعلام في حكومة الجنوب بأنهم سيوثقون علاقتهم بالكيان الصهيوني فور إعلان الانفصال، وليس خفيًا على المتابعين لأحوال الجنوب أيضًا حرص قيادات الحركة الشعبية علي زيارة الكيان بشكل متواصل، كما قام الكيان الصهيوني بتدريب حوالي عشرين ألف مقاتل من الحركة الشعبية على حدود أوغندا الشمالية، بل إنه أقام جسرًا جويًّا إلى مناطق التمرد في مارس 1994م.

تدريب وتأهيل الجنوب

وفي حالة انفصال الجنوب سيكون للجيش الصهيوني وأجهزة الاستخبارات الصهيونية دور كبير، بل الدور الأول في تحويل الجيش الشعبي إلى جيش نظامي، وليس بعيدًا أن يمتد هذا الدور إلى أقاليم أخرى في السودان.

ويهدف الكيان الصهيوني من وراء هذا كله إلى تهديد الأمن العربي بصفة عامة والمصري بصفة خاصة، من خلال زيادة النفوذ الصهيوني في الدول المتحكمة في مياه النيل من منابعه، مع التركيز على إقامة مشروعات زراعية تعتمد على سحب المياه من بحيرة فيكتوريا، هذا بالإضافة إلى السعي الصهيوني الدائم للحصول على تسهيلات عسكرية في دول منابع النيل وزرع القواعد الجوية والبحرية، وللكيان الصهيوني خمس قواعد عسكرية في جزيرة حنيش وهلك بإثيوبيا، فضلا عن أخرى بالقارة السمراء، هدفهم جميعًا التجسس على الأقطار العربية، إضافة إلى تصريف منتجات الصناعة العسكرية الصهيونية، وخلق كوادر عسكرية إفريقية تدين لها بالولاء.

"بيزنس" الإغاثة

4- منظمات الإغاثة الدولية

يعد جنوب السودان كما سبق الإشارة في موضوع سابق كنزًا لا ينفذ لمنظمات الإغاثة الدولية؛ حيث تحصل على أكثر من 300 مليون دولار سنويًّا لدعم التنمية في الجنوب، إلا أنها لا تنفق على برامج التنمية سوى 5% منها فقط، بينما يذهب الباقي إلى الدعم اللوجسيتي الخاص بالرواتب والبدلات والمكافآت والفنادق والرشاوى، وكما وصف العديد من أهل الجنوب، فإن دور هذه المنظمات يقتصر على قيام العديد منهم بممارسة رياضة الجري في شوارع الجنوب في الساعات الأولى من الصباح أو مع غروب الشمس، وشرب الخمور في البارات المنتشرة في كل ربوع الجنوب، وتقديم المعلومات المغلوطة إلى أجهزة الإعلام الدولية؛ لتأكيد وجود أزمات في جنوب السودان تتطلب وجودها.

وقد فضحت بعض الكتابات الغربية الأدوار المشبوهة لهذه المنظمات منها كتاب:LORDS of POVERTY ، وكتاب: THE ROAD TO HELL وقد كشف الكتابان الأخطاء والتجاوزات لمنظمات العون الإنساني في الجنوب من أجل تصحيح مسارها؛ حيث خلقت هذه المنظمات مجتمعًا اتكاليًّا في جنوب السودان، يعتمد على المعونات، ويكفي أن نفس الفريق الذي أدار برنامج المعونة الأمريكية قبل اتفاقية السلام هو نفسه الذي يدير حكومة الجنوب الآن.

ولمزيد من المعلومات حول دور هذه المنظمات في تأجيج الخلاف مع الشمال ودعم خيار الانفصال يمكن مطالعة هذا الموضوع:

http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=72485&SecID=341

السيطرة التجارية

5- أوغندا

تعد أوغندا أو كما يطلق عليها السودانيون يوغندا من أبرز اللاعبين في جنوب السودان؛ حيث ترتبط أوغندا بعلاقات متميزة مع قادة الجنوب الذين احتضنتهم خلال حربهم مع الحكومة السودانية، وهناك قبائل استوائية مشتركة بين الجانبين، لها نفوذ واسع في الجنوب.

ومنذ توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة السودانية وحركة تحرير السودان في 2005م، كانت هناك تحركات أوغندية للسيطرة على الجنوب سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، فأوغندا تعد ممرًّا جيدًا لجنوب السودان، كما أنها تسيطر على الوظائف الإدارية في حكومة الجنوب الوليدة، بل إن الأوغنديين هم الذين يقومون بتسجيل أسماء الجنوبيين في الاستفتاء المرتقب على حق تقرير المصير مطلع العام المقبل، وقد أحدث ذلك أزمةً كبيرةً؛ حيث قام الموظفون الأوغنديون بتسجيل الأسماء طبقًا للنظام الإنجليزي الذي يبدأ بلقب العائلة ثم اسم الشخص وأخيرًا اسم والده، وهو النظام الذي يغاير نظام التسجيل القبائلي، فضلاً لمخالفته نظام التسجيل العربي، ما دفع أحد الجنوبيين إلى التعليق على هذه الكارثة بأن الأوغنديين يزعمون أنهم يفهمون في كل شيء؛ ليسيطروا على كل شيء في جنوب السودان، فالجنوب بالنسبة لهم كنز من الخيرات.

دعم متبادل

ولعل الحرص الأوغندي على انفصال الجنوب يعكس الزيارة التي قام بها الرئيس الأوغندي منذ عدة أشهر إلى الولايات المتحدة؛ لدعم إجراء الاستفتاء في موعده، بل إن الرئيس الأوغندي كلَّف شركة للعلاقات العامة للقيام بحملة منظَّمة؛ لإحباط جهود الخرطوم الهادفة إلى إقناع أمريكا بضرورة تأجيل الاستفتاء لعدم توفر المتطلبات الفنية لإجرائه بصورة سليمة، وهو ما حدث بالفعل مؤخرًا.

وبجانب التوغل السياسي لأوغندا في الجنوب هناك توغل اقتصادي أيضًا؛ حيث يسيطر الأوغنديون على سوق "توكو توكو" وهو أكبر الأسواق التجارية في الجنوب، كما تحوَّل ميدان الحرية في جوبا إلى سوق أوغندي، بل إن أوغندا تسيطر على حركة التجارة والأكل والشرب في الجنوب؛ حيث إن الوصول من جوبا عاصمة الجنوب إلى وسط كامبلا عاصمة أوغندا لا يستغرق سوى 10 ساعات بالطريق البري الممهد وبتكلفة 50 جنيهًا سودانيًّا فقط، وبدون وثائق أو أجوزة، بينما الوصول إلى الخرطوم يستغرق ثلاثة أيام عن طريق البر ومن خلال طرق غير ممهدة أو آمنة، أو عن طريق الطيران الذي يحتاج إلى 500 جنيه سوداني ذهابًا ومثلهم إيابًا، وطبقًا للعديد من التقارير الاقتصادية فإن عائدات التجار الأوغنديين البعيدة عن التبادل الرسمي تبلغ في العام حوالي "500" مليون دولار.

وهناك خطط موضوعة لبناء السوق الحديث في جوبا كمشروع مشترك بين الحكومة الأوغندية، وحكومة جنوب السودان، وتقدَّر تكلفة هذا السوق بنحو 1.7 مليار شلن أوغندي أي 850 مليون دولار، على أن يتم إنشاؤه في مدينة بايام، والتي تبعد حوالي 10 كيلو جنوب غربي جوبا، فضلاً عن المدن الأخرى المتاخمة للبلدين.

أنشطة تجسسية

6- إثيوبيا

تسيطر إثيوبيا على الفنادق والمطاعم والبارات الموجودة في جنوب السودان؛ حيث بلغت عدد الفنادق المنتشرة في كل ولايات الجنوب 85 فندقًا خلال الخمس سنوات الماضية التي أعقبت اتفاقية السلام، ورغم سوء خدمات هذه الفنادق إلا أنها الإقامة فيها غالية جدًّا؛ حيث تبدأ الأسعار من 120 دولارًا وتصل في بعض الفنادق إلى 350 دولارًا في اليوم.

الاهتمام الإثيوبي بانفصال الجنوب لم يكن لأهداف تجارية أو اقتصادية فقط؛ حيث يسيطر على الفنادق والمطاعم والبارات التي سبق الإشارة إليها الموساد الصهيوني من الباطن، وهو ما يدفعنا إلى الأهداف الأخرى لدعم هذا الانفصال، ويدلل خبر نشرته الصحف الصهيونية مؤخرًا عن استضافة وزارة الخارجية الصهيونية وفدًا رفيع المستوى من كبار القضاة في إثيوبيا، على الأهداف الصهيونية الإثيبوبية المشتركة، سواء بالسيطرة على مياه النيل ووضع مصر والسودان في موقف متوتر بشكل مستمر نتيجة التوجُّه الإثيوبي المفاجئ نحو ضرورة إعادة توزيع حصص مياه النيل، وليس خفيًّا أن إثيوبيا تعد إحدى أزمات الأمن القومي المصري، خاصة بعد التوغل الصهيوني بها.

وقد بعث الكيان الصهيوني بخبرائه في المياه إلى إثيوبيا، والذين ساعدوها على إنشاء 3 سدود على روافد النيل الكبرى التي تدخل على المجرى الرئيسي في أجزاء متقدمة من جنوب إثيوبيا ثم السودان ثم مصر، وقد أقرَّت إثيوبيا بهذه السدود الثلاثة (بنشام- الليبرد- ستيد)؛ بحجة توليد الكهرباء، وأقرَّت بوجود الخبراء الصهاينة هناك.

ثم قام الكيان الصهيوني باللعب في جنوب السودان، فأوقف مشروع قناة "جونجلي" التي كانت ستوفر لمصر كميةً إضافيةً قدرها 5 مليارات متر مكعب من المياه؛ ووضعت إستراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل منطقة البحيرات العظمى بما يخدم مصالحها في السيطرة على الموارد المائية، وإبقاء المنطقة كلها في صراعاتٍ إثنيةٍ وطائفيةٍ مستمرة، فشهدت منطقة البحيرات منذ بداية عقد التسعينيات صراعات مسلحة أثمرت مذابح بشعة، راح ضحيتها الآلاف من الأرواح، في رواندا وبورندي التي اشتعل فيها القتال هناك، متأثرًا بما جرى في رواندا.

المصارف والبترول

7- كينيا

تقوم الإستراتيجية الكينية على دعم الانفصال، لعدة أسباب منها الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتعتبر كينيا أن الحركة الشعبية مدينة لها؛ حيث كانت هي من آواها ودعمها في مجال البناء العسكري اللوجستي من خلال الكنيسة الإفريقية الموجودة في كينيا؛ لذلك فمن الواجب على الحركة الشعبية حال الانفصال أن تقوم برد ديونها إلى كينيا.

ومن الناحية الاقتصادية فإن كينيا تسيطر على التحويلات والتعاملات البنكية والمصرفية، ويعد البنك التجاري الكيني هو الوحيد الذي يتم من خلاله تحويل الأموال من الحكومة المركزية إلى حكومة الجنوب، وكذلك تحويل المعونات الدولية الخاصة بمنظمات الأمم المتحدة والمنظمات التطوعية، كما أنه البنك الذي يتم من خلاله صرف رواتب الموظفين، ولهذا البنك 10 فروع في كل ولايات الجنوب العشر، كما تقوم كينيا الآن بإنشاء خطوط لتصدير البترول بمعزل عن بورتسودان في الشمال المنفذ الوحيد الحالي للجنوب الآن؛ حيث سيتم نقل الخط الخام من جنوب السودان إلى ميناء لامو بكينيا على المحيط الهندي بجانب الطرق التي تعتزم كينيا ربطها مع الجنوب، وتقوم الآن شركات قطرية بتطوير هذا الميناء بتكلفة تصل إلى نصف مليار دولار، استعدادًا لنقل بترول الجنوب من خلاله.

ليست هناك تعليقات :

الــــــــكتاب ليس مصـــــــــريا . د.أبو القاسم سعد الله

ليست هناك تعليقات
الــــــــكتاب ليس مصـــــــــريا

 د.أبو القاسم سعد الله

ترددّت في الصحف هذه الأيام تصريحات مفادها عدم توجيه الدعوة لدور النشر المصرية للمشاركة في معرض الكتاب بالجزائر هذا الخريف. خبر -إذا صح- مزعج لأهل الفكر والثقافة لأنه سيحملهم على الجهل والعالم يتجه إلى العلم وسيحرمهم من رصيد ثري، مما تنتجه أكبر وأقدم مؤسسات النشر في الوطن العربي .
إن كل مثقف عربي على يقين من أن الكتاب ليست له جنسية، فهو ليس مصريا وليس جزائريا ولا صينيا ولا فرنسيا، ولكنه مخزون للفكر والتراث والعلم المتنقل بين الشعوب. إنه باختصار وجه لحضارة كاملة تتجاوز الأعراق والأديان والحدود السياسية والجغرافية.
 فالجاحظ والطبري والبخاري والمتنبي والخوارزمي ودواوين شعراء الجاهلية والعصرين الأموي والعباسي ودواوين شعراء الأندلس ومؤلفات ابن خلدون وابن المقفع وابن الخطيب... ليست مصرية ولا تحمل إلا جنسية واحدة هي الجنسية العربية الإسلامية التي يضيق بها ذرعا بعض "الأجناس" من قومنا حتى لا يعرفون كيف يتصرفون فيكشفون أحيانا عما تخفي صدورهم، إنهم لا يقصدون عقاب مصر، ولكن عقاب من يقرأ كتب التراث العربي الإسلامي الذي كانت مصر من رائدات إنتاجه وحمايته منذ أنشئت مطبعة بولاق وقرأ العرب لأول مرة لغتهم بالحروف الآلية بدل اليدوية.
حقيقة إن مؤلفات الطهطاوي وطه حسين والعقاد وأحمد شوقي وأحمد أمين ونجيب محفوظ، وبضع مئات آخرين ...هي مؤلفات مصرية، ولكنها في الواقع تجاوزت حدود الجغرافيا وعبّرت مختلف المساحات والحواجز بكل حرية. وإصدارات مجمع اللغة العربية ووثائق الجامعة العربية مثلا لا تقف في وجهها قناة السويس ولا صحراء ليبيا ولا جبال النوبة لأنها تحتوي على تراث أمة إسلامية وحصاد حضارة عربية ما تزال رايتها شامخة رغم أن البعض يريد لها اليوم التنكيس والاختفاء .
هذا هو حديث الأجيال في مجالس " خير صديق " في دمشق وبغداد والقيروان وتلمسان وقرطبة وفاس، وحتى في عواصم الاستشراق العريقة الممتدة من موسكو إلى باريس .
فالذين يصرحون تصريحات فردية أو قبلية أو إيديولوجية حول ناشري الكتاب "المصري" عليهم أن يدركوا أن الشعب الذي منحهم مقاليده وجعلهم على خزائنه أكبر وأعرق وأقدر منهم على التمييز "بين الجد واللعب"، بين جد القلم ولعب الكرة، بين الغضب المفتعل والعقل الواعي. وكان عليهم أن يدركوا أنه إذا كان لا بد من مقاطعة لمصر فالأجدر أن تبدأ بوقف فرق كرة القدم الغادية والرائحة بينها وبين الجزائر مسببة سوء التفاهم بين البلدين وليس بوقف استقبال الكتاب وحركة الأفكار التي تقوي اللحمة بينهما.
وإذا كانت هناك حقا ردود فعل في هذا المجال باسم "الغيرة الوطنية" فعليهم أن يبدأوا بمقاطعة دور النشر الفرنسية التي اعتدت بلادها على سيادتنا وتراثنا الثقافي وأذاقتنا مرارة الجهل حتى تركتنا في مؤخرة الشعوب الغارقة في الأمية. ولكننا - مع ذلك- لا نتبنى هذه المقاطعة ولا ندعو إليها احتراما لحرية كل الأفكار وترحيبا بإنتاج كل الحضارات .
ماذا بقي للجناح العربي في معرض الكتاب إذا قوطعت دور النشر المصرية؟، لا شك أن بعض دور النشر العربية الأخرى ستملأ بعض الفراغ، ولكن الجميع يعرفون الفرق بين ما تعرضه الدور المصرية، وما تعرضه أخواتها منذ ظهور الطباعة في الوطن العربي. فلا تستطيع أية مؤسسة عربية مهما تقدمت في صناعة الكتاب أن تعوّض دور النشر المصرية في هذا المجال (نقصد في الروح والمحتوى والهدف). لذلك فإن حضور دور النشر المصرية معرض الكتاب من مصلحة الشعب الجزائري وجامعاته ومكتباته ومثقفيه.
قد يموّه أصحابنا بالإحصاءات عن كذا دار نشر مشاركة، مما يغني عن دور النشر المصرية. وقد يغرقون المعرض بكتب دعاة السلفية الانهزامية والكتيبات المهربة التي تحث على قراءة الأوراد والأذكار والتي تقول للشباب: ناموا "ما فاز إلا النوم"، وقد تغرق المعرض بكتب "علمية" بترجمة فجة ولغة هجينة . أما حصة الأسد والذئب والفيل والجمل فستفوز بها - بدون شك - دور نشر أجنبية لا نذكرها هنا حتى لا نفتح علينا جبهة وادي النمل .
كنا كتبنا ذات مرة عن لعنة ميرانت (كتابنا: أفكار جامحة، ص 147) تعليقا على التعليمة التي أصدرها قبل الحرب العالمية الأولى جان ميرانت مدير شؤون الأهالي (الأندجين) في الجزائر. تقول التعليمة إنه من الضروري منع دخول الكتاب المصري للجزائر عن طريق الحجاج العائدين والتجار الواعين، لأن الكتاب المصري في نظر إدارة الاحتلال يتناول أمورا تقض مضجع فرنسا كالجامعة الإسلامية والنهضة العربية وحركات التحرر. وهذا ما لا يروق لسجاني الجزائر سماعه لأنهم كانوا يخشون من رياح التغيير أن تهب من الشرق وتتسرب إلى السجن الكبير. فهل نحن اليوم نعيد المسرحية بتمثيل ورثة ميرانت؟
كنا نعتقد أن سياسة الكتاب لا تتخذها جهة واحدة ولو كانت جهة مختصة تقنيا. سياسة الكتاب في نظرنا تتعلق بالسيادة التي لا يمارسها إلا من استشار واستخار لأن وراءها ليس الاقتصاد فقط، وليس الألعاب الرياضية فقط، ولكن وراءها فلسفة بعيدة المدى وأمامها علاقات مستقبلية . فكيف تصبح سياسة الكتاب في الجزائر كرة يقذف بها كل من جلس خلف مكتب وظن أنه المعز لغير لدين الله .
 دعوا مسألة الكتاب- أيها الناس- لمن يقرأ المستقبل ولمن يهمه أمر الفلسفة، لمن يقرأ ويكتب، لمن يبحث ويدرس، لمن يتابع الحركات الفكرية والمذهبية والقومية... وليصمت كل من لا يملك غير التلفيق، ولا يحسن سوى التوقيع..  


ليست هناك تعليقات :

من أقوال الإمام حسن البنا في الوحدة و التآلف

ليست هناك تعليقات
من أقوال الإمام حسن البنا في الوحدة و التآلف

1- و نريد بعد ذلك أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته الغربية و أضاعت وحدته المطامع الأوروبية و نحن لهذا لا نعترف بهذه التقسيمات السياسية و لا نسلم لهذه الاتفاقيات الدولية التي تجعل الوطن الإسلامي دويلات ضعيفة ممزقة يسهل ابتلاعها على الغاصبين ...
و كل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله كل ذلك وطننا الكبير الذي نسعى إلى تحريره و إنقاذه و خلاصه و ضم أجزائه بعضا غلى بعض "-رسالة الشباب –


2- "أريد بالأخوة ان ترتبط القلوب و الأرواح برباط العقيدة و العقيدة أوثق الروابط و أعلاها و الأخوة أخوة الإيمان و التفرق اخو الكفر و أول القوة قوة الوحدة و لا وحدة بغير حب و أٌل الحب سلامة الصدر و أعلاه مرتبة الإيثار ( و من يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون ) – الحشر –
رسالة التعليم:


3- أن الإخوان يريدون الخير للعالم كله فهم ينادون بالوحدة العالمية لان هذا المرمى الإسلام و هدفه و معنى قوله تعالى :" و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " –الأنبياء-
رسالة المؤتمر الخامس :


4- تميزت هذه الدعوة بخصائص خالفت فيها كثيرا الدعوات التي عاصرتها و من هده الخصائص :
- البعد عن مواطن الخلاف .
- و البعد عن هيمنة الأعيان و الكبراء .
- البعد عن الأحزاب و الهيئات .
- العناية بالتكوين و التدرج في الخطوات
- إيثار الناحية العلمية الإنتاجية على الدعاية و الإعلانات .
- شدة الإقبال من الشباب
- سرعة الانتشار في القرى و البلاد .
رسالة المؤتمر الخامس


5- " أن الإخوان المسلمين يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية و مظهر الارتباط بين أمم الإسلام و أنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها و الاهتمام بشأنها و الخليفة مناط كثير من الأحكام في دين اله و لهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي صلى الله عليه و سلم و دفنه حتى فرغوا من تلك المهمة و اطمأنوا إلى انجازها " .
رسالة المؤتمر الخامس


6- و الإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة و العمل في رأس مناهجهم و هم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها و أن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بد أن تسبقها خطوات لابد من تعاون ثقافي و اجتماعي و اقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها يلي ذلك تكوين الأحلاف و المعاهدات و عقد المجامع و المؤتمرات بين هذه البلاد " .

ليست هناك تعليقات :