مدارس العصر الرائجة
بقلم : الدكتور توفيق الواعي
لله در القائل: "ما يفعل الأعداء من جاهل ما يفعل الجاهل من نفسه".. إن أساس بلاء الشعوب من أنفسها، ولن تستطيع أن تغيِّر الأمم شيئًا إلا إذا غيَّرت نفسها، حتى ترى الصواب صوابًا والخطأ خطأً، والنهار نهارًا، والليل ليلاً، فقد يعاب القول الصحيح إذا كان الجهل هو سيد الموقف:
وكم من عائب قولاً صحيحًا وآفته من الفهم السقيم
وكم من محب لليل الطويل والظلام الدامس إذا كان النظر عليلاً والطبيعة فاسدة والفطرة عفنة:
خفافيش أعشاها النهار بضوئه ولاءمها قطع من الليل مظلم
إن الجهل مرض عضال يستغله في الأمة كل مشعوذ أو دجال، يوظفه توظيفًا شيطانيًّا لمصلحته، ويستعين به كل داهية وديكتاتور؛ لتنفيذ مآربه وبسط سلطانه وترسيخ فشله، والغوغائية بلاء يقصم الظهور، ويكرس الخداع، ويُعوِّد الثرثرة، ويشغل عن الحقوق ويعلم التشرذم:
انظر الشعب ديون كيف يوحون إليه
ملأ الجو صياحًا بحياتي قاتليه
يا له من ببغاء عقله في أذنيه
قل لي بربك ما الذي يسيِّر شعوبًا إلى سنة 2011م بغير قانون أو حريات، أو مؤسسات حقيقية، أو اقتصاد فاعل، ما الذي يجعلها تنعم بالفقر، وترضى بالجوع، وتفرح بالبطالة، وتهلل للديكتاتوريات، وتعيش بلهاء بغير حضارة أو تقدم، وتتعشق ازدراء العالم، ما الذي يجعلها تهتف بالروح بالدم حتى تتفطر حناجرها، وعندها فقر دم، وهي فاقدة للروح والإحساس، قد حناها الدهر ونالت منها الأيام وطحنتها المآسي والدواهي:
حنتني حانيات الدهر حتى كأني راقب يدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني ولست مقيدًا أني بقيد
أما آن للسادة الذين يملكون الشعوب أن يرحموها، ويرحموا ذلها، وانكسارها وفقرها وجهلها وسذاجتها، لأنها البقرة الحلوب، والعبد المخلص، والحمال الدؤوب بغير ثمن أو كلل، ولولاهم ما زادت الأرصدة، ولا بُنيت القصور، ولا عاش مصاصو الدماء بغير دماء أو أبهات ومناصب، لا يستحقونها وهم أصفار متجمعة لا تستحي ولا تتزحزح فتفسح الطريق.
أما آن للسيرك القذر أن يتوارى ويُقلع عن المسرحيات الهزلية التي يتوارى خلفها، ويتستر بها، من انتخابات شكلية، ومؤسسات وهمية، وقوانين سرابية، وزفة سلطانية، أما آن لشيء اسمه العدالة، ولأمر اسمه الدستور، ولمصطلح اسمه القانون؛ أن يرى النور، وأن يكون له وجود في منطقتنا العربية المباركة، وأن تسمع الشعوب- ولو مرة واحدة- أن هناك كشوف حساب تقدمها السلطات إلى الأمة حتى ترى الإنجازات أو الإخفاقات التي يكون عليها المدح أو الذم، والتنحية أو التجديد؟.
أما آن للشعوب أن ترى سلطة ولو واحدة تتنحى أو تتبدل بغير الموت أو القتل؟ إن مدارس النبوغ في الحكم لا تكون دائمًا إلا عربية، ولهذا تراها دائمًا أبدية لا نهائية.
وجموع المداحين والنفعيين وفقراء الكفاءات، وتعساء العقول والأفكار والانتهازيين لا تنبت إلا في تربتنا وتحت سمائنا العظيمة، ولقد روى لي صديق قال: (جاءني يومًا بعض زملائي، وعليهم علامات الجد والاهتمام، فقلت لهم خيرًا، فقالوا لقد عزم كل منا على فتح مدرسة، فقلت: الحمد لله، هذا توفيق جيد وخطة حميدة ما أحوجنا إليها، فقال أحدهما في جد: لقد عزمت على فتح مدرسة لتخريج المنافقين، فقلت له: لا رعاك الله يا رجل، كف عن هذا المزاح الخبيث، فقال: إنني لا أمزح، هذه مدرسة رائجة سيتسابق الناس للدخول فيها؛ لأن الخريجين فيها سيعينون فور تخرجهم، أما رأيت فلانًا وفلانًا قد بلغا أعلى المناصب، وهذه هي مؤهلاتهم، وفلان وفلان اليوم في رغد من العيش، ويجري المال تحت أرجلهما، وأنني والحمد لله منافق قديم، وعندي من الخبرة ما أستطيع تلقينه لتلامذة هذه المدرسة، وسأغالي في مصاريف الدراسة، وسترى كم عدد الطالبين للالتحاق في المدرسة وسيتزاحمون على الفصول الدراسية، وسأجعل هناك تخصصات، وشهادات عليا، وجامعات، هذا يا أخي ما تحتاجه أمتنا، أمتنا لا تحتاج إلى علم، ولا تكنولوجيا، فكم من متعلم في أرقى الجامعات لا يجد قوت يومه، وكم من منافق لا يملك علمًا ولا موهبة تلقاه مرزوقًا.
وقال الآخر: سأفتح مدرسة لتخريج القادة، فأعلِّم التلميذ كيف يكون قائدًا ملهمًا؟، وما المؤهلات المطلوبة؟، وكيف يحبك الشعب بغير مجهود يُبذل أو عمل ينفع؟، كيف تحاسب الفوضى بالفوضى، وتهدم القوانين بالقوانين، وتدير الانتخابات الناجحة 100%؟، وكيف تملك عقول الغوغاء؟، وكيف تلقنهم وتشبعهم بالكلمات والوعود؟، وكيف تظل جاسمًا على صدورهم؟، وكيف تجعلهم يفدونك بالروح والدم؟، كيف تجعلهم يعشقون أمين أمين؟، وكيف تجعلهم دمى؟، وتخلق منهم أقذامًا وأصفارًا، كما تحب وتهوى؟
ها هم كما تهوى فحركهم دمى لا يفتحون بغير ما تهوى فما
إنا لنعلم أنهم قد جمِّعوا ليصفقوا إن شئت أن تتكلما
وهم الذين إذا صببت لنا الأسى هتفوا بأن تحيا البلاد وتسلما
قد كنت مكشوف النوايا فاتخذ منهم لتحقيق المطامع سلَّما
كلماتك الجوفاء كان طنينها صرخات ذئب في إهابك قد نما
وقال الثالث: إني سأفتح مدرسة للسلامة فأعلِّم الناس: كيف تكون قواعد السلامة؟، كيف تمشي جنب الحائط، وتتجنب الشبهات والاعتقالات، وتتفادى التعذيب؟، وارض بما قسم الله لك، فليس في الإمكان أبدع مما كان، ولا تعاند من إذا قال فعل، والباب الذي تأتي منه الريح سده واستريح..! وحينئذٍ صرخت فيه وقلت له: صه يا رجل والله ما أصبحت أتحمل هذا الهراء، ولكني رجعت إلى نفسي وقلت لها ما الذي أوصلنا إلى هذا الحضيض؟ أليس هو الجهل والنفاق والقهر والديكتاتورية، إنها كارثة.. إنها كارثة).. نسأل الله السلامة.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق